الوَفرة والكتابة اليوميّة.. هل هما «فخٌ» فعلاً؟
يقول الكاتب (فيرلين كلينكنبورغ): إن صعوبة الكتابة ليست علامةً على الفشل، بالنسبة للكاتب كلمة تدفق هي الفخ، الكتابة لا تتدفق.
في العبارة شيءٌ من الإدانة وآخر من الطمأنينة، ربما تبدو الإدانة موجهة لأولئك الذين تشبه الكتابة عندهم شتاءً ماطراً طوال العام، في حين أن الطمأنينة تُعادل كأس ماء في ظهيرة حارّة عند من يمضون ساعات في محاولة البحث عن بداية لكتابةٍ من نوعٍ ما. أمّا التقييم فربما يكون العكس تماماً لكنه لا شك بحثٌ يتجاوز فكرة الوَفرة والزمن في الكتابة نحو الكتابة نفسها.
اتكاءً على العبارة الأولى، كانت أسئلتنا إلى الكاتبين د. حسان الجودي وباسم سليمان عن العلاقة بين الكتابة اليومية وفكرة السيولة أو الوفرة، (هل يمكن لمن يكتب يومياً أن يقدم مستويات مختلفة من الكتابة أي من حيث الجودة، القيمة، التكرار، الجدة، وهل تتعلق وفرة الكتابة وتدفقها بالمستوى الثقافي للكاتب، بتجربته الحياتية، عمره، رغبته بالنشر والبوح؟).
التجربة كما هي
يقول الكاتب باسم سليمان لـ«تشرين»: مازال الإبداع قضية ملغزة، لذلك يظلّ السؤال مشروعاً، أيّهما أكثر إبداعاً؟ من ينحت من الصخر أم من يغرف من بحر.. وهل الموهبة هي العربة، والاجتهاد هو الحصان؟ من هنا رأى أنّ الإجابة عن الأسئلة الآنفة ذات صبغة نسبية، وعليه لا يستطيع أن يوافق أو يخالف ما قاله كلينكنبورغ.
يضيف سليمان، رافضاً الحكم على تجربته من معايير محددة: (كنت أميل إلى الندرة وأعتبرها المرتجى، وأعتبر كثرة الإنتاج مكسر العصا. حاليّاً، أريد تقديم تجربتي كما هي ضارباً عرض الحائط بالميتافيزيق الإبداعي من وحي، وجن عبقر، وتصعيدي فرويدي. وإذا كانت الموهبة والاجتهاد قوام الإبداع، والقلّة أو الكثرة معيار التقييم، فأنا لا أريد أن أختصر تجربتي الإبداعية بتلك الأسس، فأنا لا أنسى أبداً أنّ أصل اللؤلؤ حبة رمل، أمّا الأجمل بالنسبة لي فهي تجربة الغوص، لكن هل أعتبر نفسي مكثراً بعد سبعة كتب أم مقلاً؛ الحقيقة، لا أعرف الجواب!).
تحتاج الكتابة عند صاحب رواية «نوكيا» تبطلاً، وكسلاً، ورفاهية، ونزقاً، وغرفة تخصّ المرء وحده، كما تقول (فرجينيا ولف).. وعندما تتوفّر هذه العناصر يكتب ويتأمّل بشكل يومي ولساعات طويلة، ويكون مزعجاً ومزاجيّاً، وقد لا يكتب على الرغم من توفّر كلّ ما سبق. يشرح سليمان: «عندما أبدأ بعمل ما، أصبح كالمهووس، أريد الانتهاء منه، لكن هذه الرغبة امتدت مع روايتي الأخيرة؛ (جريمة في مسرح القباني) أربع سنوات، فهل كنت بطيئاً أم سريعاً، لا أبحث عن إجابة لهذه القضية، فديواني الأخير (الببغاء مهرّج الغابة) امتدت تجربة كتابته على مدار سنة. والآن لقد مضت خمس سنوات لم أكتب خلالها جملة شعرية واحدة، فهل أنا مقلّ أم…؟».
وإذا كان الكلام عن الخبرة والتجربة حاضراً دائماً في الحالة الإبداعية، فالرؤية عنده مختلفة. يقول: «الخبرة حياة تعاش، والتجربة عمل منظّم، وأنا ما بينهما أنوس، فكثيراً من الأعمال الأدبية تأتي عن خبرة حياتية، وأخرى عن تجربة منظّمة، لكن من يستطيع أن يحكم إلّا ظناً، أيهما أحسن!».
وفي السياق ذاته، التحدّث عن المستوى الثقافي والعمر والتجربة والرغبة بالنشر يُعنى بالوسائل الثانوية للإبداع، وهو بالنسبة له قضية لعب، كما قال أفلاطون: «نحن دمى وعلينا أن نلعب حياتنا بشكل جيد»، «وأجمل أنواع اللعب ذلك الذي يضع الشرط الإبداعي ذاته ضمن مساحة اللعب» يُوضح سليمان.
من الوحي إلى الشغف
الكاتب والشاعر حسان الجودي ينظر في مقولة الكاتب كلينكنبورغ، وفق مفهومين، يعتمد الأول على المفهوم المطلق للمقولة، والثاني على شرطها الزمني. يقول لـ«تشرين»: «يقتضي المفهوم المطلق، وضع نموذج (صعوبة الكتابة) مقابل النموذج الجدلي وهو (الموهبة أم الصنعة؟)، وقد يُفهم هذا بما كان متعارفاً عليه بهذا الخصوص في الثقافات القديمة، فقد اعتقدَ الإغريق أن الشعراء لديهم وحيهم الخاص السماوي، تحوّر هذا المفهوم عبر الزمن ليصل إلى العرب كشياطين وادي عبقر، وانتقل هذا السياق إلى العصر الحديث ليصبح مسوغاً للكتابة السهلة التي تدّعي أن مصدرها الإلهام ».
ما سبق، ألغى برأي الجودي «مفهوم الكتابة كصنعة يمكن إتقانها بالرغم من وجود إشارات تاريخية تؤكد ذلك فقد اشتهر الشاعر زهير بن أبي سلمى بحولياته التي كان يشتغل عليها عاماً كاملاً».
يتابع مؤلف ديوان (مرايا الغدير): «الكتابة حرفة يمكن إتقانها مثل بقية الحِرَف، وهي تحتاج إلى التدريب المتواصل التقني المترافق بالشغل على الوعي الجمالي، هنا يتحوّل مفهوم الإلهام ليصبح الشغف، وهو ما يزود الكاتب بتلك الطاقة لممارسة الكتابة، والتي تبدو عملاً شاقاً كل مرة، كأنها عمل (سييزيف)، لكن بتأويل (ألبير كامو)، ففي تكرار العمل الشاق الأبدي متعةً، هي نتيجة القبول بالتحدي ذاته».
يستحضر الجودي مقولة (خوان رولفو) الأب الروحي للواقعية السحرية في أدب أمريكا اللاتينية: «حين أبدأ الكتابة، لا أعتقد بالإلهام. مسألة الكتابة مسألة عمل». ويضيف: عمل مشروط أيضاً بتوفر الثقافة اللازمة التي تجعل من تدريبات الكتابة اليومية قادرة على حمل أثقال الزمن، وطرد نحافة الظلال بآن معاً، لإفساح فضاء الورق أمام كنوز الوعي الجمالي والمعرفي للذات والعالم.
أما ما يجعل الكتابة عملية سهلة لدى الكثيرين فهو على حد وصفه: «إغفال التجارب الأدبية الإنسانية المتراكمة عبر العصور، واللجوء إلى الحل الأسهل وهو الكتابة من دون ثقافة، والاعتماد على مشاهدات الحياة اليومية والأحداث في إنجاز نصوص سريعة»!.
استنزاف مصادر الكتابة
في حديثه عن المفهوم الثاني للعبارة في بداية هذه المادة، يربطها د. الجودي بشرطها الزمني. ويشرح: «كلينكنبورغ كاتبٌ معاصر، ومن المرجح أن مفهوم السيولة مرتبط بإتاحة وسائل التواصل الرقمي إمكانية الكتابة اليومية، هذه الوسائل تُشكّل نهراً زمنياً دائم السيولة، محتشداً بالنصوص، الزمن هنا في كثافته المطلقة كأنه غير موجود، وهذا دافع المستخدمين إلى الكتابة المستمرة لرفد ذلك النهر الزمني بالسيولة الكمية».
وعلى هذا تبدو سيولة الكتابة معادلاً موضوعياً معاصراً عن (الإنتروبية) في حالتها القصوى، لكن، والكلام للجودي، «لتحويل هذه العشوائية إلى أدب حقيقي يجب بذل الكثير من الشغل والطاقة، وهو ما توفره الثقافة المدعومة بالتدريب المستمر، لكن هو ما لا يسمح به بالمقابل الزمن الرقمي السائل الكثيف المضغوط كالعدم بمفهوميه، الفيزيائي الكمومي والصوفي، المعبرين عن شدة الامتلاء»، في المحصلة يقول الكاتب: «مواصلة السيولة، تُحيل إلى استنزاف مصادر الكتابة، وبذلك لن يخرج من الأعماق سواء الخواء».