سورية القديمة.. تعددت احتمالات الاسم والجغرافيا واحدة
تبدو «سورية القديمة» للباحث عيد مرعي، أقرب إلى منجمٍ من الذهب الفكري، حيث لا يملّ – الأستاذ في تاريخ الشرق القديم ولغاته وحضارته في قسم التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة دمشق – الحفر والتنقيب في هذه الأرض العتيقة، والتي جعلت منه ليس صاحب كنزٍ فكري وثقافي وحسب، بل ويملك (بنكاً) كاملاً من الكنوز، التي يصدرها كتباً تباعاً، كتباً ضخمة أقرب إلى شغل الموسوعات، وقد أصدر الباحث مرعي منها إلى اليوم على سبيل المثال: “اللسان الأكادي، عبادة آلهة الخصوبة في الشرق القديم، معجم الآلهة والكائنات الأسطورية في الشرق القديم.. ” وأحدث إصداراته في هذا المجال؛ كتابه الموسوعي الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب (تاريخ سورية القديم – آثارها وحضارتها).. وفي هذه الدراسة العميقة؛ يعود إلى سورية العتيقة، سورية عند أولى تفتحها الحضاري بين (3000 – 300 ق.م)، أي تقريباً دراسة كل الحقب القديمة منذ أزمنة ما قبل الكتابة، أو كما تُعرف ما قبل التاريخ، وحتى قبل ظهور السنة الميلادية الأولى بـ(300) سنة..
ومن نافل القول، إنّ الدكتور عيد مرعي في دراسته لآثار وحضارة سورية القديمة، لا يعني الأمر سورية اليوم بحدودها الجغرافية المنقوصة آلاف الكيلومترات، وإنما كانت مساحة دراساته دائماً، كل سورية كما خلقتها الطبيعة، من خليج العقبة جنوباً، وحتى هضبة الأناضول شمالاً، ومن البحر غرباً وحتى جنوب بلاد فارس شرقاً .. هذه سورية الطبيعية التي يُحددها بخمس مناطق جغرافية: المنطقة الساحلية، وهي شريط طويل مختلف العرض، يمتد من خليج إسكندرون في شمال غربي سورية، إلى رفح عند الحدود الفلسطينية – المصرية في الجنوب الغربي، وقد توافرت هنا منذ أقدم العصور الشروط المناسبة للاستقرار، مثل: التربة الخصبة والأمطار الغزيرة وإمكانية الاتصال بالعالم الخارجي عبر المتوسط، فنشأت المدن التي ازدهرت في عصورٍ مختلفة، مثل: أوغاريت التي اختُرعت فيها أول أبجدية عرفتها البشرية في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، ومن ثمّ طوّرت جيل هذه الأبجدية في القرن العاشر قبل الميلاد وصدرتّها إلى بلاد الأغريق، وهناك «صور» التي سيطرت بتجارتها على حوض البحر المتوسط، والتي أسست قرطاجة على ساحل تونس، وهناك حيفا، ويافا، وعسقلان، وغزة على الساحل الفلسطيني، هذه المنطقة التي أطلق عليها الإغريق في الألف الأول قبل الميلاد اسم (فينيقيا).. أما المنطقة الثانية؛ فهي منطقة الجبال الساحلية، وهي سلسلة الجبال التي تسير موازية لساحل البحر المتوسط من الشرق باتجاه شمال جنوب، ومن جبال الأمانوس في أقصى الشمال الغربي حتى جبال الجليل وجبل الكرمل وجبل سيناء في الجنوب.. وهناك منطقة السهول الانهدامية التي تكوّن الامتداد الشمالي للانهدام الآسيوي – الإفريقي، وتفصل بين الجبال الساحلية، وجبال لبنان الشرقية، ويجري فيها نهر العاصي، وهي سهول: العمق، والبقاع، والحولة، وغور الأردن.
أما المنطقة الرابعة؛ فهي سلسلة الجبال الداخلية، وهي تتكوّن من الهضاب والجبال التي تحصر السهول الانهدامية، وأشهرها جبال: سمعان، والزاوية، ولبنان الشرقية، وحوران، والجولان، وإربد، وعجلون، والبلقاء، ومؤاب، والشراة، والتي يحتل جبل حرمون (الشيخ) أعلى قمة فيها (2814م)، وأخيراً المنطقة الخامسة، وهي منطقة السهول الداخلية وبادية الشام، وتمتد من حلب في الشمال إلى حوران في الجنوب، وتصل باتجاه الشرق إلى نهر الفرات.
وهي بهذا الامتداد، وكما عدت في ذلك الزمن البعيد شكلت (قلب الشرق الأدنى القديم)، ولا تزال إلى اليوم قلبُ هذا العالم، هنا وعلى هذه الجغرافيا تأسست مدن كانت ولكثير من الوقت مراكز إشعاع حضاري للعالم كله، وإذا عُدنا إلى عصور ما قبل الكتابة، أي إلى قبل (3200ق.م)، نجد أن مواقع سورية كثيرة كانت مُدناً فكرية وحضارية منها مواقع أو تلال: الجرف، الأحمر، أبو هريرة، المريبط، حلف، جموكار، براك، الرماد، وغيرها الكثير.. ويظهر التأثير السوري واضحاً في انتقال الكثير من أسماء العلم التي شاعت في سورية في العصور القديمة إلى الإغريق، والرومان، ومنهم إلى أوروبا وأمريكا، كبعل – بيل، وصموئيل وجبرائيل، ودانييل وديان، وسارة، وإزابيل وغيرها، وكذلك في انتقال المعتقدات الدينية، والكثير من العادات والتقاليد كاحتفالات رأس السنة الجديدة.
صحيح أن سورية الطبيعية فشلت في تحقيق وحدتها السياسية منذ العصور القديمة، إلا أنه كانت لها دائماً وحدتها الثقافية والحضارية التي تظهر بوضوح في استخدام لهجات متقاربة بين سكانها سُميت بأسماء مأخوذة من أسماء مدنها «آكادية، أوغاريتية، فينيقية، أرامية، سريانية، نبطية، تدمرية..» وغير ذلك..
وسأكتفي بالعرض من هذا الكتاب في محاولة الباحث تفسير الاسم «سورية»، وكما غيره من الباحثين؛ فقد أحضر الدكتور عيد مرعي، عشرات الروايات التي حاولت أن تُفسّر مصدر الاسم، ومن كان أول من أطلق اسم سورية على هذه الجغرافيا، هذا المُصطلح الذي يُسجّل أول ظهور له في الألف الأول قبل الميلاد، وذلك عندما قضى الميديون الذين أقاموا مملكة لهم في شمالي إيران على الإمبراطورية الآشورية الحديثة أواخر القرن السابع قبل الميلاد، وجعلوا بلاد آشور، أي القسم الشمالي من بلاد الرافدين؛ مُقاطعة ميدية، حيث سموا المنطقة الواقعة ما بين نهري الفرات ودلجة (أسورا) نسبة إلى مدينة آشور التي كانت سابقاً عاصمة هذه المنطقة.. وبعد أن حكم قورش الثاني مؤسس الإمبراطورية الفارسية سنة (555 ق.م) مدينة بابل العام (539 ق.م) اختصر الاسم الميدي إلى (سورا)، وفيما بعد ساد الاسم الإخميني على القسم الشمالي من بلاد الرافدين (أثُورا)، وعرفها الآراميون باسم (أتور) التي أطلقت فيما بعد على كامل المنطقة الممتدة باتجاه غرب الفرات والبالغة البحر المتوسط والحدود المصرية عند شبه جزيرة سيناء..
غير أن الاسم الأوضح؛ كان ما استخدمه المؤرخون الإغريق أمثال هيكاتيوس الملطي، وهيرودوت الهاليكارناسي، فقد استخدما الاسم الذي لايزال يُلفظ باللغات الأجنبية إلى اليوم، وهو (سيريا)، وذلك على كامل المنطقة الخصبة الممتدة ما بين البحر المتوسط، وسلسلة جبال طوروس، ونهر الفرات والبادية، والتي يعتقد الباحث إنه مأخوذ من (أسورا، أو سورا).. غير أن الاعتقاد الأكيد لدى الباحثين اليوم أن اسم «سوريا»، مشتق من (assyria) الذي أطلقه الإغريق على الإمبراطورية الآشورية الحديثة (911 – 612 ق.م) التي بلغت أوج قوتها واتساعها في عهد ملكها الكبير آشوربانيبال (668 – 627 ق.م)، وكان أول من استخدم التسمية بصيغة ( syrie)، هو المؤرخ الإغريقي هيرودوت (490 – 425 ق.م) الذي زار سورية، ومصر، وبابل، وغيرها من مناطق الشرق الأدنى القديم بعد منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، عندما كانت تخضع للإمبراطورية الأخمينية الفارسية، وقال إن سكانها يُدعون عند الهيلينيين (أي الأغريق) بـ(سيرويوي syrioi)، كما يرد اسم (سوريا) في بعض أسفار العهد الجديد – في أناجيل: « متى، مرقس، ولوقا »، وسورية في اللغة الآرامية بالألف الممدودة، تماماً كما في الإغريقية (syria)..