مبهورةً وقفتُ أمام اللوحة الأولى فالثانية فالثالثة، فكلِّ ما زيّن الجدران في المعرض من ألوانٍ صاخبة، سمّاها العارض باسم واحدٍ هو: قرية لوّنتها الشمس! والشمس لا تلوّن بل تبارك الألوانَ الحيّة فتجعلها تشرق من بعض نورها ووهجها، ولأن الشمسَ أزليةٌ، فهي تتميز بذاكرة أكثرَ من مدهشة، لذلك طافت في اللوحات سفينةٌ كنعانية، على متنها النبي نوح (عليه السلام) ومن نجا من الطوفان، ترفرف أمامه حمامتان خضراوان، تمضيان إلى برّ الأمان، وبدا عنترة بنُ شداد فارساً متوقّدَ العينين يحمل رمحه الطويل باليد اليمنى التي تقبض على لجام الفرس ويرفع باليسرى درعاً نحاسيّة صلدة، بينما جُعلت أرض الصحراء منمنمةً بالحصى والأعشاب الخضراء، وفاضت السماء بالنجوم الحمراء، ومن جهة معاكسة، على لوحة منفصلة أقبلت «عبلة» بابتسامة المنتصر، على فرسٍ شقراء ترفع بيدها اليسرى باقة ورد، تجلّلها غيوم وتحيط بها نخلات باسقات! هذه اللوحات المطرزة بخيوط دقيقة ناعمة، كنت رأيتها بريشة الفنان الشعبي الفذ «أبي صبحي التيناوي» الذي سافرت لوحاته من «باب الجابية» في دمشق إلى كل أنحاء العالم من دون أن يغادرها هو من الولادة إلى الممات! وفي الدائرة المكانية التي جمعت عنترة وعبلة بالتيناوي، ستحضر قرى ريف حلب التي أبدعتها فلاحات جبل «الحص» بقببها وقبابها ونوافذها وسهولها ودروبها ومآذنها وحقولها التي أمرعتها الخضرة!
كلّ مشاهِدٍ، وأيُّ مشاهِدٍ، سيرى نفسه على أرض كنعان- سورية وهو يغرق بصبيب الألوان والأشكال حين يرى اسم «عناة» رفيقة «بعل» ترعى المعرض متجاوزةً الزمن، ملتقيةً مع النبي نوح والتيناوي ونساء جبل «الحص» اللواتي نثرن خيوط الذّهب في دمشق! إنها الهوية التي لا تخطئها العين حين يستحضرها الإدراك المعرفيّ تماماً كالثوب الفلسطيني المطرز الذي نجا من الاستيطان وأكاذيب ادعاء ملكية الأرض بما فيها وعليها، بوعد من الله! الثوب الموشّى بماء الأرض وبياراتها وبساتين زيتونها، وحكايات الجدّات والحواكير وسهر الليالي بانتظار عودة الفدائي مظفراً، هذا الثوب الذي تجاوز الانكسارات والهزائم والألاعيب الدولية والاستيطان وأساطير التأسيس والمؤسسات الإعلامية الهائلة التي طمست الخريطة وغيّرت اسمها في الأطالس الجغرافية ومراجع البحوث والدراسات ومحاضرات الجامعات وقوانين «اللاساميّة» وبقي يعلن أصلَ الأرض وأهلها، وبات بفنون أشكاله على الثوب والوسادة واللوحة الجدارية، يروي تاريخاً لا يستطيع رقيبٌ في العالم تزوير فقراته أو تعديل كلماته أو تركها للتأويل المغرض!
أقف على عتبة المعرض الذي ازدحم بالرواد، وأفكر: أيَّ لوحة، بوسعي أن أقتني؟ أيها يمكن أن تجاور لوحة الثوب الفلسطيني ذي القطب النبيذية، وهو اللون الغالب في تطريزه، على جدار بيتي؟ سأغمض عيني وأختار ما تلمسه يدي، فكل لوحة هي هوية، وكل قطبة فيها توقيعٌ لا يمكن إزالة مداده عن القماش بَلْهَ عن القلب!.