المُتنبي والقباني.. الجدل المُستمر واللغز الإبداعي في الظاهرة الشعرية

ربما يتفاجأ البعض، وضع شاعرين كـ«القباني والمُتنبي» من عصرين مختلفين، في عنوانٍ لمقال واحد، وبالتأكيد من حقه أن يتساءل ما الذي يجمع بين أبو الطيّب المتنبي (915م – 965م) الذي هو أحمد بن الحسين بن عبد الصمد الجعفي المذحجي، وجعفي جد المتنبي وهو جعفي بن سعد العشيرة من مَذحِج من كهلان من قحطان، وكندة التي ينسب إليها، محلة بالكوفة وليست كندة القبيلة، والذي عاش أفضل أيام حياته وأكثرها عطاء في بلاط سيف الدولة الحمداني في حلب وكان من أعظم شعراء العرب، وبين نزار بن توفيق القباني (1923- 1998م) دبلوماسي وشاعر سوري معاصر، من أسرة دمشقية.
بين شاعر يُعتبر من فحول العربية، والذي كان في جل دواوينه الوصول إلى جزالة القاموس الشعري عند أبي تمام، غير أنه وصل إلى أهم من الجزالة والفحولة اللغوية، وهي بيت الشعر – الحكمة، ولا أظن شاعراً في العالم تُردد أشعاره كأمثال وحكم كما تُردد أشعار المُتنبي إلى اليوم.. وبين شاعر كان طول همه أن يُنزل اللغة من «فحولتها» المتحفية البائسة إلى لغة الناس، إلى لغة من لحمٍ ودم، إلى لغة تُشم، وتُلمس بالأصابع.
الحقيقة أن غاية هذا المقال ليس البحث في المُشترك بين الشاعرين الكبيرين، بل إن المقارنة هذه تأتي بنفسها في حديثنا عن كتابين للشاعر والناقد نزار بريك هنيدي «لغز المُتنبي» و«نزار قباني» الصادرين عن الهيئة العامة السورية للكتاب، حتى إن الشاعر هنيدي ليس غايته في هذين الكتابين المقارنة، حيث نشر الكتابين منفصلين، ولكنها مُناسبة للقراءة في قصائد الشاعرين، وتبيان المشترك والمُختلف بينهما.
لعلّ أبرز ما هو مُشترك بين الرجلين، هو المقولة التي قُيلت بحق الرجل الأول – المُتنبي، من أنه «مالئ الدنيا وشاغل الناس»، غير أن الحقيقة كثيراً ما أطلقت العبارة للرجل الثاني بحجم ما أطلقت على صاحبها الأساسي، بمعنى أنه أكثر ما عُرف عن الشاعرين هي صفة «الجدل»، ورغم أنّ لكل مهما جدله الخاص والمُختلف، غير أنهما يشتركان معاً في هذا الجدل الذي لم – ويبدو لن – يتوقف يوماً.. الأول الذي ذهب شعره صوب الحكمة المستمدة من فلسفة إغريقية بعيدة، حتى وصلت إلى ذروة الحكمة، وبين شاعرٍ هو من الرقة والقرب لدرجة تُمكنك من شم رائحة الكلمات.
شاعر دخل غرف نوم النساء على تنوعها، وهو بعكس ما أطلق عليه (دخل غرف نوم النساء ولم يخرج)، هو في الحقيقة خرج، ولكن كانت في جعبته مئات الأفلام المصورة شعرياً، تصل أحياناً لـ«البورنو»، وأقصد بذلك الشاعر نزار قباني، بينما كان حيز الغزل عند الثاني – المتنبي في حيزه الأشد ضيقاً، لدرجة لم يُعرف عنه أنه عاش قصة حب.
وفي العودة لكتابي الشاعر نزار بريك هنيدي؛ يقول في كتاب «لغز المُتنبي»، حيث يذكر الباحث علي القيّم في تقديمه للكتاب: في العودة إلى المُتنبي؛ هي استعادة لشاعرٍ كبيرٍ، استطاع أن يخرق جدار الزمن، وأن يتخطى القرون المتوالية، فارضاً نفسه على المُعترك الشعري الراهن، المعاصر والحداثي، ومُرسخاً شعريته التي لم تتأثر بما تعرّضت له من حملات عدائية – كم يُشبه نزار قباني في هذا المشهد – وكان ومازال ظاهرة حيّة، وسراً من أسرار العبقرية الشعرية، وشخصية إشكالية حافلة بالألغاز التي يستعصي سبرها، أو إدراكها كاملة.
ربما من هنا نستطيع أن نصل إلى ما يُشبه التأكيد في مسألة التماثل في شخصية الشاعرين على صعيد الطموحات، وعلى مُختلف المناحي الاجتماعية من تشكيل ظاهرة شعرية أحدثت صدمة في المشهد الشعري في عصر كل منهما الذي عاش فيه، وإن اختلفا في بنية القصيدة، وفي أغراضها وشواغلها، والأبرز في لغتها.
وهنا أشير إلى الفصل الذي يُلفت فيه الشاعر هنيدي إلى «الحكم والأمثال»، وربما هذه من أهم ملامح شعر المُتنبي؛ فيقول: «مما لا شكّ فيه أن المظهر الأكثر بروزاً من مظاهر خلود شعر المُتنبي، وانتشاره بين الناس منذ العصر الذي عاش فيه، وحتى اليوم؛ يتجلى في هذا العدد الكبير من الأبيات، أو أنصاف الأبيات التي صاغها صياغة معجزة، وضمّنها حِكماً وأمثالاً، مازال الناس يرددونها إلى اليوم، في المواقف الحياتية المختلفة، حيث يأنسون إليها، ويجدون فيها ما يُساعدهم على التعامل مع أزماتهم الطارئة».
حتى إنّ ناقداً مثل إيليا حاوي يقول: «إنّ الآية الشعرية لا تكتمل إلا إذا نزلت عليه فيها آية حكمية توجزها وتؤكدها، وتمنحها اليقين العمومي الراسخ، وهكذا تراه يصيح وتصيح معه أفواه العصور حتى يومنا هذا»:
ما كلُّ ما يتمنى المرءُ يُدركه
تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ..
وهو ما عدّه ابن الأثير امتيازاً له عن شعر أبي تمّام، وتعويضاً عما فاته منه، ومن بدائعه إرسال الأمثال في أنصاف الأبيات:
مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائدُ
من قصدَ البحرَ استقلّ السواقيا
خيرُ جليسٍ في الأنامِ كتابُ
وما خيرُ الحياة بلا سرورٍ
ولا رأي في الحبّ لعاقل..

أما نزار قباني، الذي أصدر مجموعته الشعرية الأولى «قالت لي السمراء»، فقد قال عنها منير العجلاني مُخاطباً القارئ: «لا تقرأ هذا الديوان، فما كُتب ليُقرأ، لكنه كُتب ليُغنى، ويُشمّ، ويُضم، وتجد فيه النفس دنيا مُلهمة..».. نزار قباني الذي يقول عن طفولته: «كان اصطدامي بالجمال قدراً يومياً، كنت إذا ما تعثرت أتعثر بجناح حمامة، وإذا ما سقطت أسقط على حضن وردة..»، وكان من الطبيعي أن ينعكس هذا الاصطدام اليومي بالجمال على لغته الشعرية، وصوره وأخيلته وإيقاعاته، ولاسيما إذا ما أضفنا أنه تتلمذ على يد أقطاب المدرسة الشامية في الشعر أمثال: عمر أبو ريشة، الأخطل الصغير، إلياس أبو شبكة، سعيد عقل، وغيرهم.
ومن مميزات هذه المدرسة أنها كانت تُعنى بجمال اللفظة، ورونق التركيب، وأناقة الصياغة، وبهاء الصور والمشاهد التي تُفعم الحواس:
من لثغة الشحرور، من
بحة ناي مُحزنه
من رجفة الموّال، من
تنهدات المئذنه
من غيمةٍ تحبكها
عند الغروب المدخنه
إضافة إلى جمال الطبيعة وعناصرها؛ فإن الجمال مرتبطٌ ارتباطاً أصيلاً بالمرأة، فهي رمز الجمال في كلّ زمان ومكان، ولم يتوقف الشعراء عن التغزل بجمالها منذ أقدم العصور، غير أن للمرأة كان لها وقع آخر عند نزار قباني، فقد تغنى بكل ما يتعلق بالمرأة، ولم يقتصر على وصف جمالها الجسدي، كما ألفنا عند السابقين من الشعراء، فقد ملأ مجموعاته الشعرية الأولى بقصائد كاملة أفردها لتصوير جمال الأشياء التي تتعامل معها المرأة في حياتها اليومية، مثل: الشال، العقد، السوار، خاتم الخطبة، القرط، الفستان، القميص، كم الدانتيل، التنورة، والجورب المطوع، والخف الصغير، والصندل، وغيرها.. مُسبغاً عليها من حسه الفني المرهف ومهارته الفائقة ما جعلها تفتن القراء والمستمعين على امتداد العالم العربي كله.
ويعتبر هنيدي أنّ الإنجاز الأكبر لنزار قباني في هذا المجال؛ هو أنه استطاع تغيير صورة المرأة التي اعتدنا أن نراها في الشعر العربي، والتي تُظهرها في شكلٍ ضبابي غير مُحدد الملامح، لأنها تعكس المثال الذي يخلقه خيال الشاعر أكثر من أن تكون صورةً لامرأة حقيقية من لحمٍ ودم يعيش معها الشاعر تجربته الخاصة، أما عند القباني فقد بتنا نلتقي نماذج عصرية من النساء اللواتي يُبدع في رسمهن، وفي رصد أحوالهن المُتعددة ومشاعرهنّ المختلفة، ورحنا نعيش معه أدق تفاصيل علاقاته المتنوعة معهن، ومن خلال ذلك فقد أغنى الوجدان العربي بقصائد حُب تذوب رقةً وعذوبة، وأصبحت لسان حال أجيال من العاشقين:
أنا أحبّكِ، فوق الغيم أكتبها
وللعصافير والأشجار أحكيها
أنا أحبّك، فوق الماء أنقشها
وللعناقيد والأقداح أسقيها
ارجع إليّ فإنّ الأرض واقفةٌ
كأنما الأرضُ فرّت من ثوانيها
ارجع، فبعدك لا عقدٌ أعلقُهُ
ولا لمست عطوري في أوانيها
لمن صباي؟ لمن شال الحرير؟ لمن
ضفائري منذُ أعوامٍ أربّيها؟
ارجع كما أنت، صحواً كنتَ أم مطراً
فما حياتي أنا، إن لم تكن فيها..
ومن مآثره أنه برع في تقمص شخصية المرأة، والنطق بصوتها للتعبير عما كانت تُخفيه من انفعالات وأحاسيس تخشى البوح بها، فقد وزّع نزار قباني شواغله الشعرية بالدرجة الأولى للمرأة التي جعل تخليصها من اضطهادها قضية لا يملّ من الدفاع عنها، وهو ما أحضر انشغاله الثاني وهو: التحدّي والتمرد، والثورة على الأفكار البائدة، والأشكال الجامدة، والنفور من العادات والتقاليد البالية، بينما كان انشغاله الأخير بالقضايا الوطنية والقومية، وله فيها الكثير من القصائد.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار