بعد أن قلب محتويات القاعة رأساً على عقب، ثم أعاد ترتيب الزوايا ورفَع اللوحات المكدّسة بفوضى، يوزعها على الجدران والأعمدة التي تعترض فراغ القاعة، قال: إن الزوّار حين يأتون سينسابون ليتأملوا ما شاء لهم مثل ماء ينساب في قناة لا سدود فيها!, وكنت أتأمله بدهشة وهو يصنع مشهداً مغايراً عن ذاك الذي جابهني حين دخلت المكان لألقي عليه التحية، ولم أرَ إلا جذعه ينحني ثم يستوي بكنزته الكحليّة وساعديه الملطّخين بالألوان، حتى بدا أنه غيّر الفراغات ورمّم عدم اتّساقها وأفاد من حُزم الضوء التي تخترقها وفرك أصابعه العشر ببعضها: الآن أنا سعيد, المعرض صار جاهزاً, هل تعلمين أنني لم أتوقّف عن هذا الحلم منذ عقدٍ من الزمان؟, عشرة فنانين من أصدقائي لم ينقطع بيننا التواصل عشرَ سنوات حالكة، كالحة، مقفرة من المسرّات، كلّما اشتدّ القصف وانهدم جدارٌ وسقف، كنت أصرُّ على أن يواصلوا البقاء! انهدم المرسم؟ لا بأس!.. الأهم منه حزمةُ الفراشي وعصّارات الألوان ومزّاجات الماء والزيت!, كنت واثقاً أنه زرعٌ مبارك وارفٌ سيعلو على كل خراب, هل تعلمين لماذا؟, لأن الزمن لا يعترف بالخراب ولا بتفاصيله المقيتة بل يعانق الجمال مهما كان هشّاً!.. اسمعي هذه القصة: في عزّ الحرب الإجرامية علينا، دخل عقيدٌ في الجيش العربي السوري جبهة «داريا» المتأججة بنيران الإرهابيين، وكانت الكمائن في كل قبو وكل بيت بحيث واجه عناصره حرباً ضروساً واستشهد منهم العشرات، ولحظة ران صمت الفجر رأى لوحةً مخطوطة بحروفٍ بارعةِ الدقّة بين أكوام الأنقاض، التقطها كأنه يلتمس كتاباً مقدّساً وقرأ على حاشيتها اسم شيخ الخطّاطين الدمشقي الديراني الشهير _محمد بدوي المولود أواخر القرن التاسع عشر، وكان العقيد يعرف أن هذا الخطّاط العظيم، قد ترك إبداعه في أهم جوامع دمشق وأن شهرته تجاوزت حدود بلاد الشام! هل تعرفين ماذا فعل بها؟ احتضنها ومسح التراب عنها وحفظها بعناية حتى وجد وقتاً لتسليمها باليد إلى وزارة الثقافة في منطقة المالكي!, لن أقول لك تخيلي هذه المأثرة، لأنك لستِ سائحة بل عشتِ كما نحن جميعاً، كلّ يوميات الحرب!, أعتقد جازماً أن روح العقيد الذي استشهد في «داريا» تنعم بالسّلام الآن لأنه فهم بعمق ماذا تعني «عشبة الخلود» التي بحث عنها «جلجامش» ليحفظ صديقه «أنكيدو» من الفناء، لأن اللوحة صارت تتنفّس بروحيْن، بل بأرواح كل من فداها، وإلا كيف يكون الخلود؟ وما هي عشبته التي صوّرتها الملحمة مجازاً، إن لم تكن بقاءَ الفن الإنسانيّ الرفيع؟ مساء اليوم سيرى الجمهور عشرة أساليب لعشرة فنانين، تختلف في مدارسها لكنها تلتقي في رسالتها! ولعلمك الإبداع التشكيليّ فريدٌ في تكوّنه ويختلف عن القصة والرواية والشعر والسّينما والمسرح، لأنه لا يتوزع بين أيدي الصُّنّاع فيضيع بعض ألقه بل هو شيء فرديّ يشبه شرنقة الحرير التي تنفرد بها، وفيها، دودة القزّ كما ينفرد الفنان بلوحته بدون مراجعة الرّقابة والتدقيق اللّغويّ ودخول المطابع! وواصل كلامه وهو لا يدري أي لوحة يرسم في خاطري، حتى أوجزْتُ له انطباعاتي بكلمات قليلة: أنت محقّ، لن تنجو نفوسنا وأرواحنا بعد هذا الليل الطويل إلا بالفنّ!.