في مئويته.. نصير شورى في شاعرية اللون من الواقعية إلى اختزالات الانطباعية
بين سنة 1920، وسنة 2021؛ يكون قد مرّ على ولادة الفنان التشكيلي السوري نصير شورى مئة وسنة واحدة، عاش منها حتى سنة 1992.. تلك هي الفسحة من الحياة؛ كانت كافية لظهور تجربة جمالية سورية، ولأن يكون لها الحيز اللوني لأن تمتدّ وتنتشر بكل انعطافاتها، ولتجعل من صاحبها أحد أهم الأسماء في الحياة التشكيلية السورية، والذي ارتبط باسمه مُصطلح الواقعية الاختزالية..
ومناسبة الحديث عن الفنان التشكيلي نصير شورى، هو صدور الكتاب الذي أعدّه الناقد سعد القاسم بعنوان (مئوية شورى)، بذكرى الاحتفال بمرور مئة سنة على ولادة الفنان شورى خلال (أيام الفن التشكيلي السوري) في موسمها الثالث السنة الماضية، وفي هذا الكتاب الذي صدر مؤخراً عن الهيئة العامة السورية للكتاب – وزارة الثقافة؛ كانت ثمة فرصة للناقد القاسم لأن يجمع مقالات ودراسات كُتبت في تجربة الراحل شورى، وهي في ذروة حراكها، وهي طازجة، وذلك بأقلام كتّابٍ ونقاد عاصروا التجربة وخبروها حتى آخر لون خطّه شورى بريشته على الخامة البيضاء..
وفي التقديم لهذه المقالات؛ يعد سعد القاسم الفنان شورى من جيل الرواد الثاني في الحركة التشكيلية السورية، هذا الجيل الذي ينتمي إليه كل من محمود حمّاد، فاتح المُدرّس، والأخوين أدهم ونعيم إسماعيل، الياس زيّات، برهان كركوتلي، لؤي كيّالي، وغيرهم.. وهو الجيل الذي صنع هوية الفن التشكيلي السوري الحديث باستلهامه ثراء التراث الإبداعي السوري، في الوقت نفسه انفتاحه على مفاهيم الفن في عصره، ومن هنا، فهو جيل استطاع أن يُبدع فناً أصيلاً، ومن دون أن يتقوقع على ذاته، كما لا يذوب في غيره..
فقد كان نصير شورى؛ مُتفرداً في أسلوبه – كما يصفه القاسم – ومُرهف الإحساس باللون، وعلى الرغم من تفوقه في تصوير الأشخاص، كما تدل على ذلك لوحته أثناء الدراسة، وخاصة لوحة (الفتى البائس)، فقد كان شغوفاً بتصوير مشاهد الطبيعة بأسلوبه الخاص، وبفضله استمر الاتجاه الانطباعي في الحضور بمرحلة الخمسينيات وما تلاها..
هذه (الانطباعية) التي اكتسبها شورى إضافة إلى دراسته، كانت مُخزنة في ذاكرته منذ تفتحت عيناه على البساتين و(حواكير) الصبارة التي كان يطلُّ عليها منزل أبيه على أطراف الشام، وربما ساهمت الصور الأولى هذه في تكوين ذائقته الفنية واهتمامه بجمال الطبيعة.. فقد كان والده من أوائل صيادلة دمشق، وقد افتتح صيدلية باسمه في مطلع حي المهاجرين بدمشق لاتزال قائمة في المنطقة التي تحمل اليوم اسم (شورى).. وفي المدرسة الابتدائية كان نصير الطفل يرسم صور أساتذته وزملائه على اللوح وجدران المدرسة، وهو الأمر الذي لفت انتباه أستاذه عبد الحميد عبد ربه الذي شجعه على مزاولة الفن، وتعلم على يديه وسط ممانعة شديدة من عائلته، إلا أن دعم خاله العلامة محمد كرد علي، مؤسس المجمع العلمي العربي في دمشق (مجمع اللغة العربية اليوم)، والذي كان على معرفة بفناني تلك المرحلة أمثال: بشارة السمرة، توفيق طارق، وغيرهما، وهو ما ساعده كثيراً، وبعد إنجاز دراسته الإبتدائية أكمل دراسته في مكتب عنبر، ونمت مواهبه في الرسم على يد جورج بولص خوري خريج المدرسة الوطنية العليا للفنون الزخرفية في باريس، ومن ثمّ جرّب الألوان المائية والزيتية إضافةً إلى الفحم والباستيل، وفي سنة 1938؛ أقام أوّل معرض للوحاته الزيتية في نادي الضباط بدمشق، وكانت تُصوّر مشاهد دمشقية وطبيعية، وطبيعة صامتة، وكذلك وجوه أليفة.. وفي تلك الفترة شارك في معظم النوادي والتجمعات التي كان من غاياتها تقديم الفن التشكيلي، غير أن أول تجمع للفنانين التشكيليين خُصص فقط للرسم، كان في غرفة صغيرة في دار الموسيقا الوطنية (1936 – 1940)، والتي كان قد أسسها الموسيقي مصطفى الصواف، سرعان ما انسحب منها الفنانون التشكيليون، وأسسوا دارهم المستقلة التي اسموها (ندوة الأندلس 1940 – 1941)، وفي مطلع هذه الفترة أقيم معرض مهم في كلية الحقوق شارك فيه نصير شورى مع مجموعة من الفنانين السوريين والفرنسيين. غير أن أول تجمع مُتكامل أسس في سورية للفنانين التشكيليين، جاء بعد صداقة طويلة بين شورى والفنان محمود حمّاد اللذين شاركا سنة 1941 بتأسيس مرسم (فيرونيز) مع عدد من الفنانين بينهم: محمود جلال، ميشيل كرشة، رشاد قصيباتي، وعبد الوهاب أبو السعود، وربما كان هذا التجمع هو الأول في تاريخ الحركة التشكيلية السورية..
وبعد تخرجه سنة 1947، عمل مدرساً في ثانويات دمشق، وخلالها افتتح مرسمه الخاص سنة 1948 مستقبلاً فيه المواهب الفنية، ويُعد هذا المرسم الذي كان قائماً في منطقة (أبو رمانة – قريباً من ساحة النجمة) من أقدم المراسم الخاصة في دمشق، وكان أشبه ما يكون بالمركز الثقافي يلتقي فيه الفنانون والأدباء والموسيقيون والشعراء، وبعد رحيله حوّلت زوجته الفنانة بهية نوري المرسم إلى صالة تحمل اسمه، وكان لها حضورها المهم في الحياة التشكيلية لمدينة دمشق خلال تسعينيات القرن الماضي.
وأما أقدم القراءات النقدية لتجربة الفنان شورى، فيجدها القاسم بما كتبه عنه الفنان صدقي إسماعيل سنة 1950، وخلال هذه المقالة يستعرض إسماعيل تجربة شورى بمقارنتها بتجارب عالمية من خلال التأثر بتلك التجارب، ويجد له العذر في ذلك، لأن الفنان في بلادنا لايزال غريباً عن أي تيارات فنية محلية، وحيداً مع ريشته والإنتاج الغربي، ومن الكتابات الأولى في قراءة هذه التجربة الريادية، ما وجده القاسم في مقالة للشاعر أدونيس، وهو ما يؤكد على العلاقة القديمة بين أدونيس والفن التشكيلي، ففي سنة 1953 نشر أدونيس مقالة بعنوان (مع الفنان نصير شورى)، أدونيس الذي رأى في أسلوبه؛ إنه ينظر إلى الموضوع كوحدة منسجمة من الألوان والخطوط والحجوم، فهدفه في اللوحة من هذه الناحية توزيع المساحات الملونة بشكلٍ يضمن التوازن التام فيه، والألوان التي تُسيطر على إنتاجه الفني هي ألوان هادئة، فهو لا يميل إلى استخدام الألوان الصارخة المُتضاربة، وأما الموضوعات التي يُريد أن يُعبّر فيها عن فكرة معينة كالألم مثلاً أو البؤس، فإنّ الفكرة هنا هي التي تفرض اللون بحيث ينسجم معها ومع موحياتها..
ولعلّ من أجمل مقالات الكتاب ما دونه عنه الفنان نذير نبعة، والياس الزيات في دراسة الانعطافات الفنية على هذه التجربة الريادية، فيذكر الزيّات: كان نصير شورى مُتفرداً في أسلوبه، ورهيف الحس اللوني حتى لقبوه بشاعر اللون، وجاء حبه للمنظر الطبيعي من رصده تقلبات هذا المشهد فتبنى الأسلوب الانطباعي الواقعي، وعبّر عن المنظر السوري واللبناني بحقيقة مكانية وبراعة في اللمسة، وذلك في أواسط ستينيات القرن الماضي حين بدأ تجارب تجريدية تحرر فيها من الشكل المرئي، لكنه بقي محافظاً على شاعرية ألوانه، وفي سنة 1965 شكّل مع محمود حمّاد وفاتح المُدرس والياس زيات جماعة تجريدية أسموها جماعة (د) أو دمشق، وأقاموا معرضاً مشتركاً في صالة الصيوان بدمشق، كان له صدى في الأوساط الفنية في ذلك الحين بين مؤيدٍ وناقد، وفي سبعينيات القرن العشرين، يبدأ نصير شورى تجارب أوصلته إلى أسلوب جمع بين الانطباعية والتجريد، فأخذ الشكل المرئي من الأولى، والابتكار في التأليف من الثانية، مُشكلاً أسلوباً خاصاً به، عُرف في محافل المعارض الفنية واستمر في ذلك حتى وفاته..