إذا كان صحيحاً أن الدول كالأشخاص، تنجح و تفشل، تفرح و تحزن ، تمرض و تعالج ، إذا كان هذا صحيحاً ، فإنه يحق لي أن أقرأ معكم الفيلم البريطاني ( الأب) الذي يحكي قصة رجل ( أب ) تجاوز الثمانين . و بدأ يعاني من مشاكل في الذاكرة، و على طريقة هذا الأب الذي يخلط الواقع بالخيال عبر أحداث الفيلم . اسمحوا لي أن أمزج ( لا أخلط ) شخصية الأب بالدولة الغربية كمثال معبر عن الفكرة .
مثل دور الأب السير أنطوني هوبكنز و نال عليه باستحقاق جائزة الأوسكار كأحسن ممثل لهذا العام 2021 .
و استطاع الأب في الفيلم أن يبني لنفسه رواية عن وضعه و يقتنع بها و يتصرف على أساسها ، تماماً كما فعلت بريطانيا و أميركا عندما اقتنعتا بروايتهما عن دورهما في قيادة العالم كما أن هذا الأب الذي نقلته ابنته إلى شقتها بسبب خرفه يعتقد أن هذه الشقة هي بيته الذي لا يقبل أن يغادره مهما كانت الأسباب . و هذا بالضبط كان حال الدول الاستعمارية خاصة بريطانيا التي استعمرت دول العالم و جعلتها جزءاً تابعاً لها لم تقبل مغادرته طوعاً . و ورثت أميركا هذا السلوك الخرف عن أمها بريطانيا كذلك فإن الأب يرسم لكل من ابنته أو من يأتي لمساعدته معها قصة حياة من وحي خرفه و يتصرف معها وفق ما توهمه عنها و هل يختلف ذلك عما فعلته بريطانيا المستعمرة ( كمثال للدول المتحكمة ) في تلفيق حياة الشعوب التي استعمرتها و تتحكم بها لتطيل وجودها و تمدد حكمها و استعمارها له ، و هكذا فإن فيلم الأب يوحي بإمكانية مزج معانيه مع معاني الدولة المتسلطة خاصة و أن ( الأب ) في الضمير الفكري الإنساني ما هو إلا تعبير عن السلطة العليا في البيت الذي يعبر عن الوطن و بالتالي الدولة .
النقاد الغربيون وجدوا في شخصية الأب رواية عن حالة ( فرد) بلغ الشيخوخة و هناك من رأى في الفيلم معالجة لمشكلة ( أفراد) يعانون من خلل الذاكرة و التفكير عند تقدمهم بالعمر . و هذا صحيح و لكن هل يمكن لأي ناقد أن ينكر ما توحيه شخصية مسرحية فنية إبداعية كشخصية الأب من معانٍ عامة؟
و هل يمكننا أن نحرم المتلقي من قدراته العقلية في تفهم إيحاءات و مضامين ما يرى و يتابع من فن مفعم بالإيحاءات . خاصة أن هوبكنز كممثل عظيم استطاع بحركته في البيت و تنقلاته على غير هدى و ببراعة نظراته التائهة أن يعبر عن المضمون العميق لاختلال العقل مع احتفاظه بالمظهر المتزن للأب و ما جعله يفوز بجائزة أحسن ممثل و هذا ما أتاح لنا أن نمزج بين حالته من التوهان ضمن مظهر الاتزان و بين حالة دول وصلت إلى اضطراب التفكير و دخلت مرحلة الخرف و مازالت تتظاهر بالقوة و الاتزان .
فيلم ( الأب ) الذي كتبه و أخرجه ( زيلر) عن مسرحية له بنفس العنوان و مثلت فيه إلى جانب هوبكنز صاحبة دور الملكة إليزابيت في مسلسل التاج أوليفيا كولمان يمكن لصناعه و نقادهم أن يعدوه تعبيراً عن ( حالة فرد )، و لكن يحق للفن أن يرسل إيحاءاته . و يحق لنا أن نقرأ هذه الإيحاءات كشكل من أشكال التفاعل الفكري مع الإبداع و هذا ما فعلناه في هذه الزاوية . فما رأيكم ؟؟؟.