(في مهبّ الشعر).. هنيدي يُلاحق انجدالات القصيدة بأنواع الإبداع الأخرى

يُوزعُ الشاعر نزار بريك هنيدي شواغله الإبداعية بين مجالين على وجه التحديد: كتابة القصيدة أولاً، وهو ثانياً؛ يُتابعها بالدراسات النقدية، بمعنى يبدو مهموماً بالقصيدة ليس على صعيد إنجاز النص الشعري فقط، وإنما بدراسة الإشكالات التي تلتبس على القصيدة، ورصد الظواهر الشعرية في ديوان الشعر بشكلٍ عام، وهنا يبدو عادلاً أيضاً في توزيع اهتماماته وشواغله بين المجالين؛ فقد أصدر فيهما ستة عشر كتاباً، لكل منهما ثمانية كتب إلى اليوم..
ويأتي كتاب مقالات ودراسات (في مهبّ الشعر)، كتنويع نقدي في أحوال القصيدة، التي لا يفتئُ يُفتش عن الأساليب والسبل، لكتابتها بالشكل الأبهى، وبما يليق بالشعر.. صحيح إنّ كتاب (في مهبّ الشعر) – إصدار اتحاد الكتّاب العرب- يوحي بتجميع مقالات كان قد نشرها الشاعرُ في أوقاتٍ سابقة، وأزمنة مُختلفة، وهو ما يوحي بدوره على أنها كتابات منفصلة عن بعضها، غير أن قراءة تأملية لتلك المقالات والدراسات، تؤكد إيحائين معاً، وهو يُمكن قراءتها مُنفصلة، كل دراسة، أو مقال باهتمام واحد وخاص، كما يُمكن قراءتها على أنها دراسات مُتصلة في إشكالات القصيدة العربية وسجالاتها، ورصد الظواهر الشعرية، وعلاقة القصيدة بغيرها من الأنواع الإبداعية الأخرى، إذ أنّ مجرد سرد لعناوين تلك المقالات يؤكد على ما سبق الإشارة إليه.. منها على سبيل المثال: (الشعر والتلقي، الشعر والزمن، الشعر والفلسفة، الشعر والموسيقا…) وغيرها الكثير من الظواهر والإشكالات الشعرية، غير أنّ ما أريد التوقف عنده في هذه الإضاءة الصحفية لكتاب الدكتور نزار بريك هنيدي؛ موضوع طالما شغلني لسنوات، وهو يعنيني على الصعيد اهتماماتي النقدية، وهي دراسته المعنونة بـ(شعرية القصيدة القصيرة)، وفي هذا المجال يذكر- ونحن نتفق معه في هذه الملاحظة -: إنّ المتتبع لحركة الشعر؛ لابدّ سيلاحظ زيادة ملموسة بالقصيدة القصيرة، حتى بتنا نرى مجموعات شعرية تُخصص بكاملها لهذا اللون من الشعر، الذي أخذ تسميات مختلفة، مثل: قصائد قصيرة، ومضات، إشراقات، قصاصات، منمنمات، وغيرها.
وفي العودة للمدونة الشعرية العربية، يجد الباحث، إنّ القصيدة القصيرة، ليست جديدة على المشهد الشعري، ففي الزمن الشعري القديم؛ كان دائماً تتوفر القصيدة ذات الأبيات القليلة، أو حتى القصيدة ذات البيت الواحد، غير أنّ الجديد اليوم؛ إن النص المُكثف والقصير، يكاد أن يُشكّل أحد ملامح القصيدة المُعاصرة.. وفي هذا المجال؛ يجد هنيدي الكثير من الدوافع للاتجاه صوب النص الشعري القصير؛ منها: طبيعة العصر نفسه، الذي يُفضل – حسب ما يرى- الأمور الخفيفة، وذلك بسبب الحالة السريعة التي لا تلوي على سكون، بالإضافة لظاهرة انتشار المهرجانات الشعرية التي تحشر عدداً من الشعراء في فترة زمنية محدودة قد لا تتجاوز الساعتين، وهو الأمر الذي يجعل الشعراء يفضلون القصيدة القصيرة التي تقول (بيت القصيد) دفعةً واحدة، وتلفت انتباه السامعين.. كما أنّ رواج القصيدة القصيرة؛ كانَ من أسبابه الترجمات للشعر العالمي ذي المناخات المُكثفة مثل: الهايكو والتانكا اليابانية، وكذلك قصائد يوجين غيفلك، ويانيس ريتسوس القصيرة وغيرها..
ومع ذلك؛ فإنّ أمر طول القصيدة وقصرها، لم يمرا دائماً دون اختلاف، وإثارة زوابع الاتهام بين الشعر واللاشعر، وليست المسألة حديثة في ذلك، وإنما أثير الكثير من الجدل منذ ظهور أول نصٍّ شعريٍّ قصير، وما عنوان الباحث لهذا الفصل من الكتاب بـ(شعرية القصيدة القصيرة)، إلا بما يُشبه الإشارة إلى التشكيك بإمكانية وجود (الشعرية) في مثل هكذا نصوص، حيث يعود الدكتور هنيدي في هذا المجال لزمن الفيلسوف الإسلامي ابن رشد، وتحديداً إلى ما قام بتلخيصه عن كتاب أرسطو في الشعر؛ حيث يقول: “والأنقص من الأشعار، والأقصر هي المُتقدمة بالزمان، لأنّ الطباع أسهل وقوعاً عليها أولاً، والأقصر هي التي تكون من مقاطع أقل، والأنقص هي التي تكون من نغمات أقل أيضاً..”، وعلى ما يذكر ابن رشد أيضاً: “ومن الشعراء من يُجيد القول في القصائد المطولة، ومنهم من يُجيد الأشعار القصار، والقصائد القصيرة، وهي التي تُسمى بالمقطعات.. وبعدها يُقرر ابن رشد في تلخيصه لكتاب أرسطو؛ إنّ القصيدة القصيرة أقرب إلى الطباع، وأسهل في الوقوع عليها، وهي تستمد شرعيتها من اختلاف موضوعها عن موضوع القصيدة الطويلة، فهي تختص بتخييل الأشياء القليلة الخواص التي لا يجوز تناولها في قصيدة طويلة، لأنّ وصف الشاعر المُجيد يجب أن يكون على كنه الموضوع، ولا يتجاوز خواصه، ولا حقيقته..

كما أنّ الأمر يتعلق بالشاعر نفسه، فهناك الشاعر المفطور على التقاط المواقف الشعرية الوامضة التي لا تصلح للقصيدة القصيرة، كما أنّ نفسه الشعري القصير لا يؤهله لخوض غمار تجربة القصيدة المطولة، وهناك الشاعر المفطور على محاكاة الأشياء الكثيرة الخواص ومعالجة الحالات الشعرية المركبة، والذي لا ينجح إلا في القصائد الطويلة، لأنّ حساسيته لا تساعده على الإمساك بشعرية التفاصيل الصغيرة، وموهبته لا تمكنه من تكثيفها كما يبرع في كتابة المطولات الشعرية..
ورغم أهمية إيراد هذا الرأي لفيلسوف بأهمية ابن رشد في مسألة طول القصيدة وقصرها، وأهمية منحه الشرعية لكليهما، غير أن الباحث يورد أمثلة نقدية أخرى، والتي تنقسم حول وجود الشعرية بأي النوعين، فثمة رأي يعتبر أن الشعر لا يُمكن أن يوجد إلا في القصيدة القصيرة، وأنّ أي قصيدة طويلة ناجحة ما هي في الحقيقة غير مجموعة من القصائد القصيرة، وهو ما يقوله صراحةً ناقد بحجم إدغار آلان بو، وذلك في تأكيده لا وجود لقصيدة طويلة.. فيما يتجلى الموقف الثاني؛ في اعتبار القدرة على كتابة المطولات، هي المعيار الذي تُقاس به موهبة الشاعر، وهو ما عبّر عنه هربرت ريد في كتابه (طبعة الشعر) حيث يعتبر أنّ التصورات الملحمية الكبرى، هي التي نقيس بها (عظمة الشعراء)، بل ويخص الشاعر القادر على نظم القصيدة بلقب (شاعر مُفلّق)، وبتقديري هذا القول لم تثبت صحته يوماً، وربما كان العكس هو الصحيح.. هربرت ريد الذي يُحدد القصيدة القصيرة بأنها القادرة على تجسيد موقفاً عاطفياً مفرداً بسيطاً، القصيدة التي تُعبّر عن حال ذهنية مسترسلة أو إلهام، فيما القصيدة الطويلة تلك التي توحد من خلال البراعة عدداً كثيراً من الأمزجة العاطفية..
وأخيراً نستأنس برأي الباحث نفسه؛ الدكتور نزار بريك هنيدي، الذي يصف القصيدة القصيرة بـ(المنمنمة)، التي هي طموح لتقديم نصٍّ صافٍ يعتمدُ على مجموعة من العناصر والتقنيات الفنية التي تتضافر لتكوين بنية خاصة سيتم فيها تفعيل الوظائف الشعرية كافة في طاقتها القصوى، وضمن أشد ما يُمكن من تكثيف، دون أن يفقد النص شفافيته وحيويته، ويتم ذلك من خلال مجموعة من الشبكات التي تنتظم فيها جميع عناصر النص: اللغوية، والتخيلية، والصوتية، والإيقاعية، بحيث تتكامل أدوارها لتتوهج جميعها في بؤرة المشهد الشعري، وهذا لا يتم بالتأكيد على التقاط اللحظة الشعرية، بل لابدّ من الشغل الفني المُركّز الذي يوجهه الحس الجمالي من جهة، والخبرة والوعي الفني من جهة أخرى، ومن هنا يرى الدقة في مصطلح (المنمنمات) لتُسمى به النصوص القصيرة، لأنها أمست اليوم بنية شعرية مركبة قادرة على الإيحاء بالمعادل الموضوعي لكثير من المواقف الشعرية المعقدة..
ما أريد أن أختم به هذه القراءة في كتاب (في مهب الشعر) للشاعر والناقد نزار بريك هنيدي؛ إن كل فصل في هذا الكتاب جدير بالوقوف مطولاً عنده، لكن ونظراً للحيز الضيق؛ اخترت موضوعاً إشكالياً مايزال يُثير الكثير من الجدل في ديوان الشعر السوري على وجه التحديد، لاسيما، وأن ثمة مصطلحات كثيرة دخلت اليوم في القاموس النقدي حول القصائد القصيرة منها على سبيل المثال: الومضة، الشذرة، التوقيعة، والأقصودة، إلى جانب توفر أنواع إبداعية أخرى تميزت هي أيضاً بالتكثيف وقُصارى القول كالقصة القصيرة جداً، وكذلك الكثير من نصوص النانو، والهايكو، إضافة للكثير من التقنيات الجديدة التي اعتمدت البلاغة المُضادة مثل: الإيحاء، الإضمار، الإخفاء، الحذف، التنصيص، المشهدية، وغيرها الكثير التي يعتمدها اليوم النص القصير ليوسع من ضيق العبارة..

تصوير: طارق الحسنية

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار