منظمة حظر الأسلحة الكيميائية بين الموثوقية والتسييس
نجحت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا في عملية تزوير الحقائق والدعاية المكثفة والابتزاز والضغط على العديد من الدول في استصدار قرار معاد لسورية في المؤتمر الخامس والعشرين للدول الأعضاء في منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، وذلك بعد سلسلة من التقارير التي اعتمد خلالها موظفو المنظمة على أدلة ملفقة وآراء “شهود عيان” لا ترقى لأن تعتمد أو تستخدم كأدلة وبراهين في أسوأ محاكم العالم.
في أواخر العام ٢٠١٩ أفادت صحيفة “ديلي ميل” البريطانية بأن عالماً وظفته منظمة حظر الأسلحة الكيميائية قال في بريد إلكتروني مسرب: إن “التحقيقات على الأرض في دوما بريف دمشق في نيسان 2018 لم تتوصل إلى دليل قوي حول وقوع هجوم الغاز المزعوم، وإنه تم إخفاء الحقائق بشكل متعمد في تقارير المنظمة، وإن الأدلة التي جمعت في دوما وتم فحصها لا تدعم نسخة التقرير الذي تبنته المنظمة رسمياً، وأن المنظمة أعادت صياغة التقرير إلى الحد الذي تم فيه تحريف استنتاجاته.”
ويؤكد البريد الإلكتروني أن التقرير الرسمي للعلماء المستقلين حول حادثة دوما فرضت عليه رقابة شديدة وتم اختصاره لدرجة تحريف الحقائق عبر ترك معلومات رئيسية وإخفاء حقيقة أن آثار الكلور التي زعم العثور عليها في الموقع كانت مجرد عناصر ضئيلة للغاية بمعدل أجزاء في المليار، وفي أشكال يمكن العثور عليها في أي مواد تبييض منزلية، وأن التقرير أخفى عدم تطابق تام بين الأعراض التي أظهرها الضحايا في موقع الحادث وتأثيرات المواد الكيميائية التي تم العثور عليها بالفعل، حيث إن الأعراض التي تظهر في مقاطع الفيديو لا تتطابق ببساطة مع الأعراض التي كان يمكن أن تحدث بسبب أي مادة موجودة في الموقع.
في التقرير حول دوما اعتبرت المنظمة إن ثمة “دوافع منطقية تتيح القول إن عنصراً كيميائياً تم استخدامه كسلاح في السابع من نيسان 2018” خلال الهجوم على دوما في الغوطة الشرقية لدمشق وأن “هذا العنصر الكيميائي كان يحوي غاز الكلور.”
بعد تقرير آخر حول هجوم مزعوم أيضاً في اللطامنة بحماه في آذار ٢٠١٧، قال سانتياغو أوناتي لابوردي رئيس لجنة التحقيق التي شكلها أعضاء المنظمة في بيان: “هناك أسس معقولة للاعتقاد بأن مستخدمي السارين كسلاح كيميائي في اللطامنة في 24 و30 آذار 2017 واستخدام الكلور كسلاح كيميائي في 25 آذار 2017 هم أفراد من سلاح الجو السوري”، من دون أن يذكر مصدر هذه المعلومات التي عادة ما تكون درجة سريتها عالية جداً، إلا أن تقارير صحفية ذكرت أن مصدر هذه المعلومات هو تقارير إعلامية بالإضافة إلى ما يسمى “المرصد السوري لحقوق الإنسان” الذي يديره شخص واحد يقيم في لندن.
وفي تقرير آخر لها، قالت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية: إن لديها أسباباً معقولة للاعتقاد “أن القوات الجوية السورية” أسقطت قنبلة غاز الكلور على حي سكني في مدينة سراقب بإدلب في شباط عام ٢٠١٨ ما أدى إلى إصابة ١٢ شخصاً، وهذه “الأسباب المعقولة” بنيت على شهادات منظمة “الخوذ البيضاء” التي ثبت بالدلائل القاطعة ارتباطها الوثيق بالتنظيمات الإرهابية، والدعم الذي تتلقاه من الاستخبارات الغربية، وبناء على ما سبق ارتكبت أبشع الفظائع بحق السوريين في مختلف أنحاء سورية.
وفي أعقاب تقارير إعلامية وفيديوهات نشرتها “الخوذ البيضاء” أيضاً حول هجوم كيميائي في خان شيخون بإدلب، قالت بعثة تقصي الحقائق التابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية في تقرير صادر عنها: إن الأشخاص في منطقة خان شيخون بريف إدلب قد تعرضوا في الرابع من نيسان للسارين، وأقرت أنه ولأسباب أمنية، لم تتمكن بعثة تقصي الحقائق من زيارة خان شيخون، غير أن فريقها حضر “عمليات تشريح الجثث، وجمع العينات الطبية الحيوية من الإصابات والوفيات، واستجواب الشهود، وتلقي العينات البيئية” في بلد مجاور، من دون أن تسميه، وهي تقصد تركيا التي كانت إحدى أكبر الدول الداعمة للإرهابيين خلال الحرب على سورية.
“دوافع منطقية” في دوما، و”أسس معقولة للاعتقاد” في اللطامنة، و”أسباب معقولة للاعتقاد” في سراقب، و”شهادات وعينات “من تركيا في خان شيخون، هي أمثلة واضحة على كيفية بناء تقارير هذه المنظمة وطريقة عملها واستخراج النتائج التي تخدم مخططات الدول الغربية الكبرى وتحقق مصالحها، لتعمل بعد ذلك آلات حكومات تلك الدول الإعلامية وفرقها السياسية وأدواتها الرخيصة على اعتماد تلك “التقارير” لإطلاق تصريحات تثبت الاستنتاجات الواردة في التقارير على أنها “حقائق مطلقة” تبني عليها لتكون أداة جديدة لاستهداف الشعب السوري، ومواصلة دعم تنظيماتهم الإرهابية لإعادة الحياة لها بما يضمن استمرار الحرب حتى يستمروا في محاولات استغلال الفرص لتحقيق مصالحهم.
يقول خوسيه بستاني، أول مديرٍ عام لمنظّمة حظر الأسلحة الكيميائية، في بيان أعده لتلاوته في مجلس الأمن يكشف فيه تستر منظّمة حظر الأسلحة الكيميائية على حقائق مهمة في الهجوم الكيميائي المشتبه به في دوما، “إذا كانت مزاعم إزالة الأدلّة، والاستخدام الانتقائي للبيانات واستبعاد المحقّقين الرئيسيين”، من بين مزاعم أخرى، لها أساس من الصحة، فمن الضروري للغاية التعامل مع هذه المسألة بشكلٍ علنيٍّ وعاجل.
لقد بلغت هذه المنظّمة ذروة العظمة بالفعل. وإذا كانت قد انزلقت، فلا يزال لديها إمكانية إصلاح نفسها، والنموّ لتصبح أكبر. فالعالم يحتاج إلى هيئة رقابة موثوقة للأسلحة الكيميائيّة، إلا أن نفس الدول التي أعدت القرار الخاص بمعاقبة سورية بناء على تقارير منظمة الأسلحة الكيميائية، وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، منعت بستاني من التحدث أمام مجلس الأمن، وهذا بحد ذاته دليل إضافي لإثبات تسييس تلك الدول لعمل هذه المنظمة واستخدام تقاريرها لتحقيق مصالحهم.