الاشتراكية الرأسمالية
ظهر هذا المصطلح (الذي يبدو متناقضاً) بشكل قوي إبان الأزمة المالية التي عصفت بالنظام الرأسمالي عام 2008، وقد عبّر عنها النائب الجمهوري جيم بننغ في مداخلته أمام الكونغرس حول خطة الإنقاذ المالي التي طرحتها إدارة الرئيس جورج بوش الابن، يومها أطلق صرخته: “الاشتراكية حيّة وبخير في أميركا”. كان صوت بننغ تعبيراً عن الرفض الجمهوري لخطة الإنقاذ المالي لأنها توجّه الأموال نحو المؤسسات الكبرى والبنوك، أي الأغنياء، في حين لا ينال الفقراء سوى الفتات والوعود بتحسين بيئة الاستثمار لخلق فرص عمل جديدة.
بلغ هذا التمرد الجمهوري ذروته في أيلول 2008 عندما رفض الكونغرس الأميركي خطة الإنقاذ المالي كما قدمها رئيس الاحتياط الفيدرالي.
أما اليسار بكافة أطيافه فرفض الخطة من منطلق آخر، فهو يريد إصلاحاً جذرياً ومزيداً من القيود الحكومية على أسواق المال، وطرح مشروع الضريبة التصاعدية لضمان التوزيع العادل للثروة داخل المجتمع، واستعمال أموال دافعي الضرائب لزيادة الاستثمارات الحكومية وخلق فرص عمل في القطاع العام.
الحقيقة أن موضوع الضريبة المتصاعدة الذي يلوح به اليسار في كل مكان من العالم تقريباً، يتسم بكثير من السذاجة والطرافة. من المؤكد أن مثل هذا القانون سيجعل الأغنياء أكثر فقراً (نظرياً)، لكنه بالتأكيد لن يجعل الفقراء أكثر غنى. من الناحية العملية فإن سحب المزيد من الأموال المطروحة في السوق سيؤدي إلى تراجع الاستثمار في القطاع الخاص وتراجع فرص العمل الجديدة وتفاقم البطالة والفقر، في حين ستصبح المؤسسة الرأسمالية أكثر قوة وقدرة على تنفيذ مخططاتها داخل الدول الرأسمالية وخارجها.
اعتمدت المؤسسة الرأسمالية، مزيجاً من الحلين فوضعت المزيد من القيود على التداول في الأسواق المالية، واستولت على بعض المؤسسات المتعثرة (يحب البعض اعتبارها نوعاً من التأميم) ودفعت بقوانين ذات مضمون اجتماعي، مثل قانون التأمين الصحي الذي طرحه باراك أوباما، وفي نفس الوقت توجيه مليارات الدولارات نحو الأغنياء ومؤسساتهم. رغم أن هذا الحل تكرر مئات المرات في كل الدول الرأسمالية وتابعيها، وفي كل مرة كان ينتهي إلى الفشل وعودة الأزمة للظهور بشكل أقسى، كما حدث في الكساد الكبير في النصف الأول من القرن العشرين، والإثنين الأسود عام 1987 عندما انهارت أسواق الأسهم العالمية، وانهيار النمور الآسيوية في منتصف تسعينيات القرن الماضي، ناهيك عن تجارب انهيار دول بعينها مثل تشيلي وإندونيسيا.
رغم كل ذلك لقي هذا الحل قبول الجميع، خاصة بعد عودة الاقتصاديات الغربية إلى الانتعاش.
في خضم البحث عن الحلول تتناثر مصطلحات طبقية مثل مصالح العمال والطبقات الفقيرة، التزام الحكومات بتوفير المزيد من الوظائف، وغيرها من المصطلحات التي تعزز وهم اليسار الغربي بإمكانية تحقيق التحول الاشتراكي من داخل الرأسمالية. ويعفي هذا اليسار نفسه من الإجابة على التساؤل حول هذه الاشتراكية الغريبة التي لا تهدف إلى مساعدة الفقراء، بل تقوم بمساعدة الأغنياء.. اشتراكية لا تساعد المقترضين بل تساعد المُقرضين والمُرابين.
عند هذه النقطة يلتقي اليمين واليسار على ضرورة إصلاح النظام الرأسمالي وحقنه بالمزيد من العدالة والإنسانية.
يأتينا المثال الأكثر وضوحاً من اليونان، عندما حلّت حكومة حركة سيريزا الاشتراكية مكان الحكومة اليمينية، وأخذت على عاتقها تطبيق برنامج الإصلاح والتقشف الذي قدمه الاتحاد الأوربي كشرط لدعم الاقتصاد اليوناني المنهار.
ترافق ذلك بالحبكة الدرامية الكوميدية المعتادة والتي نقلت لنا أخبار بيع السيارات الحكومية، وصور المسؤولين الحكوميين الذاهبين إلى عملهم باستخدام دراجاتهم الهوائية أو المواصلات العامة.
في فيلم “أكون أو لا أكون”، للمخرج إرنست لوبيتش، يسأل أحدهم الضابط النازي: هل هناك مخيمات اعتقال في بولندا؟ يجيب الضابط مستهزئاً: هناك طرفان؛ البولنديون يبنون الخيام، ونحن نقوم بالاعتقال. في الصراع داخل المعسكر الرأسمالي هناك طرفان أيضاً: يمين يقوم بالأفعال، ويسار يكتفي بالأقوال.
“بالأفعال لا بالأقوال” هذه التميمة التي تُظهر النظام الرأسمالي بصورة النظام الفعّال القادر على البقاء ليست صحيحة دائماً. ففي الكثير من الأحيان يقوم هذا النظام بفعل أشياء بهدف تجنب الحديث عن أشياء أخرى.
يمكن مثلاً أن يلقي بـ700 مليار دولار في أتون الأزمة المالية لتجنب الحديث عن أسباب هذه الأزمة، ويمكن أيضاً أن يشن الحروب من أقصى العالم إلى أقصاه لتجنب الحديث عن أزمة النظام الرأسمالي ووصوله إلى طريق مسدود.
لكن أقوال اليسار لا تحقق شيئاً هي الأخرى، فالمكتبات مليئة بمئات الأطنان من الأوراق التي وصفت بها الاشتراكية الأوروبية كل المشاكل والحلول، لكنها لم تستطع التقدم خطوة واحدة على طريق تطبيق أيّ من هذه الحلول.
لقد نظرت تلك الاشتراكية إلى العالم بعيون رأسمالية، فهي تستنكر الممارسات الاقتصادية والعسكرية للنظام الرأسمالي، لكنها في الوقت نفسه لا تتورع عن اتهام الدول التي تتعرض للنهب والتدمير على يد الرأسمالية بالديكتاتورية وغياب حقوق الإنسان فتبدو الرأسمالية وكأنها رسول الديمقراطية والحرية. ويجعل اليسار من العداء للسامية نقطة انطلاقه للتعامل مع الكثير من القضايا العالمية، متغاضياً (والأدق متآمر) عن الجرائم التي ترتكبها الصهيونية ضد العرب والفلسطينيين، وبهذا يصبح العدوان الغربي على سورية وإيران واليمن مبرراً لأنها دول ترفض مخططات الاستسلام للمشروع الصهيوني.
إذا كنت أوجه النقد للرأسمالية والاشتراكية، فهل هناك طريق ثالث؟ تمتلك دول الأطراف الفرصة لتحقيق الفارق إذا اقتنعت أولاً بأن دول المركز الرأسمالي أصبحت عصيّة على الإصلاح والتغيير؛ وقامت، ثانياً، بتعديل القوانين الناظمة لاقتصادياتها بعيداً عن مفاهيم اقتصاد السوق.
يقوم هذا التعديل على ركيزتين أساسيتين؛ مراجعة قوانين الملكية الخاصة، وبشكل رئيس ما يتعلق بملكية وسائل الإنتاج والملكية الفكرية، وتعزيز دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي خاصة في المجالات الحيوية كالطاقة، والنقل، والتقنية، والصحة والتعليم. واتباع ذلك بإقامة الأسواق المشتركة بين دول الأطراف ما يحد من اعتمادها على السوق الرأسمالي استيراداً وتصديراً، وكذلك الخروج من سباق بضائع الرفاهية الرأسمالية (الهواتف، السيارات..)، والعودة إلى اقتصاد الإنتاج المُخَطط.
القول هنا سهل مقارنة بإمكانية الفعل، فالمعركة الاقتصادية مع الرأسمالية هي “أم المعارك”، لكن إعادة توجيه الاقتصاد بهذا الاتجاه يمكن أن يكون اللبنة الأولى لتحقيق الحرية الاقتصادية التي تعتبر أساس حرية الإرادة السياسية.
كاتب من الأردن