من قصص القرآن الكريم .. «ذو القرنين» شخصية أثارت اهتمام الفلاسفة والباحثين منذ القدم
لا يأتي ميلاد الحضارات بين عشية وضحاها؛ بل بالصبر والتحمل واتخاذ الأسباب عندها يأتي التمكين، وينبثق ميلاد فجر حضارة جديدة، وتعدّ شخصية ذي القرنين من أكثر الشخصيات التي تم تداولها في التاريخ القديم وقد أثارت اهتمام الفلاسفة والباحثين منذ القدم، و بُذِلت جهود ومساعٍ كثيرة للتعرف إلى هذه الشخصية، فقد جمع ذو القرنين بين شخصية الحاكم العادل والعالم العامل، إلى جانب ورعه وتقواه وخوفه من الله تعالى، وحثه على نشر قيم العدالة بين الناس ، وكان يستخدم القوة التي يسرها الله له في التعمير والإصلاح في المشرق والمغرب وتحمل أعباء السفر ومشاقه ليخدم الناس ويتفقد أحوالهم ويبث فيهم روح العمل وأسس ومبادئ الصناعة ، وكذلك تبين رحلاته نشر روح التسامح بين الأقوام ، والاستفادة من بعضهم البعض في مجال البناء والحوار الحضاري الى جانب اهتمامه وحرصه الشديد على هداية الناس.
وحول سبب نزول هذه الآيات فإن اليهود أشاروا على قريش أن يسألوا الرسول محمد (ص) عن ملك طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها.. ما كان نبؤه ؟ فقالو : “إذا أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه ، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقوِّل فاصنعوا في أمره ما بدا لكم … فأنزل الله تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا) ..و نلاحظ أن كل الآيات التي وردت فيها كلمة (يسألونك) أعقب تلك الكلمة، فعل الأمر (قل)، وذلك أن السؤال مهما كان مصدره فإن جوابه لا يبتدعه الرسول ابتداعاً أو يصدر فيه عن رأيه، خاصة إذا كان عن أمر من الأمور الغيبية، فالجواب من عند الله عالم الغيب والمحيط بكل شيء، يوحيه الله إليه، وما عليه إلا أن يبلغه لهم، وهذا منوط بالإعجاز ولا سيما إذا كان السؤال عن خبر مضى، أو نبأ حدث وانقضى.
وفي استئناف الحديث عن ذي القرنين يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي منحناه سبل القوة والقدرة والحكم.
﴿ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا {84} فَأَتْبَعَ سَبَبًا {85} حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ﴾ فرأها تغرب في بحر غامق أو عين ذات ماء آجن: ﴿ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ﴾.
(حمئة) تعني في الأصل الطين الأسود ذا الرائحة الكريهة، أو الماء الآسن الموجود في المستنقعات، وهذا الوصف يبين لنا بأن الأرض التي بلغها “ذو القرنين” كانت مليئة بالمستنقعات، بشكل كان ذو القرنين يشعر معه بأن الشمس كانت تغرب في هذه المستنقعات، تماماً كما يشعر بذلك مسافر البحر، وسكان السواحل الذين يشعرون بأن الشمس قد غابت في البحر أو خرجت منه !.
﴿ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً﴾ أي مجموعة من الناس فيهم الصالح والطالح، هؤلاء القوم هم الذين خاطب الله ذا القرنين في شأنهم: ﴿ قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا﴾(1).
بعد ذلك يحكي القرآن جواب “ذي القرنين” الذي قال: ﴿ قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا﴾؛أي إن الظالمين سينالون عذاب الدنيا والآخرة معاً.
﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى﴾… ﴿وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا﴾. أي إننا سنتعامل معه بالقول الحسن، والظاهر أن ذا القرنين أراد من ذلك أن الناس سينقسمون مقابل الدعوة إلى التوحيد والإيمان والنهي عن الظلم والفساد إلى مجموعتين، الأولى: هي المجموعة التي سترحب بدعوته للتوحيد والإيمان وهذه ستجزى بالحسنى وستعيش حياة آمنة ومطمئنة، أما الثانية: فستتخذ موقفاً عدائياً وتستمر في شركها وظلمها، وتواصل فسادها..
وعندما انتهى “ذو القرنين” من سفره إلى الغرب توجه إلى الشرق حيث يقول القرآن في ذلك: ﴿ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً﴾ أي استخدم الوسائل والإمكانات التي كانت بحوزته.
﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً﴾، وفي اللفظ كناية عن أن حياة هؤلاء الناس بدائية (2) ﴿كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً﴾ (3)، هكذا كانت أعمال “ذي القرنين” ونحن نعلم جيداً بإمكاناته.
كيف تم بناء سد ذي القرنين؟
يشير القرآن الكريم إلى سفرة أخرى من أسفار ذي القرنين حيث يقول: ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا﴾. ومضى في سفره حتى وصل إلى موضع بين جبلين: ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً﴾.
إشارة إلى أنه وصل إلى منطقة جبلية، وهناك وجد أناساً (غير المجموعتين اللتين عثر عليهما في الشرق والغرب) لا يكادون يفقهون قولاً كانوا على مستوى أقل من المدنية . (4)
في هذه الأثناء اغتنم هؤلاء القوم مجيء ذي القرنين، لأنهم كانوا في عذاب شديد من قبل أعدائهم يأجوج ومأجوج، لذا فقد طلبوا العون منه قائلين: ﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا﴾.
قد يكون كلامهم هذا تم عن طريق تبادل العلامات والإشارات، لأنهم لا يفهمون لغة ذي القرنين، أو إنهم تحدثوا معه بعبارات ناقصة لا يمكن الاعتداد بها. (5) ويستدل من الآيات الكريمة أن تلك المجموعة من الناس كانت ذات وضع جيد من حيث الإمكانات الاقتصادية ، إلا أنهم كانوا ضعفاء في المجال الصناعي والفكري والتخطيطي، ولم يتوانَ ذو القرنين عن مساعدتهم فقال: ﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ﴾، وعندما تهيأت قطع الحديد أعطى أمراً بوضع بعضها فوق البعض الآخر حتى غطّي بين الجبلين بشكل كامل: ﴿ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ﴾.
الأمر الثالث لذي القرنين هو طلبه منهم أن يجلبوا الحطب وما شابهه، ووضعه على جانبي هذا السد، وأشعل النار فيه ثم أمرهم بالنفخ فيه حتى احمرَّ الحديد من شدة النار: ﴿قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا﴾.
لقد كان يهدف ذو القرنين من ذلك ربط قطع الحديد بعضها ببعض ليضع منها سداً من قطعة واحدة، وعن طريق ذلك، قام ذو القرنين بعمل (اللحام) نفسه الذي يقام به اليوم في ربط أجزاء الحديد بعضها ببعض.
أخيراً أصدر لهم الأمر الأخير فقال: اجلبوا لي النحاس المذاب حتى أضعه فوق هذا السد: ﴿قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً﴾، وبهذا الشكل قام بتغطية هذا السد الحديدي بطبقة النحاس حتى لا ينفذ إليه الهواء ويحفظ من التآكل.
ومن الاعجاز العلمي في القرآن الكريم اثبات العلماء اليوم أنه عند إضافة مقدار من النحاس إلى الحديد فإن ذلك سيزيد من مقدار مقاومته، ولأن “ذا القرنين” كان عالماً بهذه الحقيقة فقد أقدم على تنفيذه.
وأخيراً، أصبح هذا السد بقدر من القوة والإحكام بحيث: ﴿فَمَا اسْتطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً﴾.
لقد كان عمل ذي القرنين عظيماً ومهماً، وكان له أن يتباهى به أو يمن به، إلا أنه قال بأدب كامل: ﴿قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي﴾ لأن أخلاقه كانت أخلاقاً كريمة ، لأنه أراد أن يقول: إذا كنت أملك العلم والمعرفة وأستطيع بواسطتها أن أخطو خطوات مهمة، فإن كل ذلك إنما كان من قبل الخالق جلّ وعلا، وإذا كنت أملك قابلية الكلام والحديث المؤثر فذلك أيضاً من الخالق جلّ وعلا.
وإذا كانت مثل هذه الوسائل والأفكار في اختياري فإن ذلك من بركة الله ورحمة الخالق الواسعة.
لقد أراد ذو القرنين أن يقول: إنني لا أملك شيئاً من عندي كي أفتخر به، ولم أعمل عملاً مهماً كي أمُنَّ على عباد الله.
قال تعالي: “قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقاً” أي إذا اقترب الوعد الحق جعله دكاً، أي ساواه بالأرض وكان وعد ربي حقاً لا محالة.
والى هنا تنتهي قصة ذو القرنين لتظل نبراساً يضيء الطريق نحو العزة والتمكين وتحقيق العدل وصدق الاستخلاف في الأرض.