نضال الصالح في كتابه (النص الثالث).. نقد النقد وإعادة النصوص إلى رشدها!
يغالي بعض المبدعين أحياناً، عندما يغضبون من صراحة النقد وجرأته بالقول: الناقد مبدع فاشل!. رغم أن حركة التاريخ تؤكد أن تطور الفنون لا يمكن أن يتم من دون عمليات نقدية عميقة تتصل بالفكر والفلسفة والحياة بشكل عام، وهذا بالطبع لا يلغي النظرة الاستشرافية المستقبلية للفنون بل يكرسها لأن مهمة النقد تتناول سبر معالم الطريق وإضاءة الجوانب المعتمة فيه ونبش الجماليات الغائبة عن العين والذهن وتصويب البوصلة إن اقتضى الأمر.. وهذا بالطبع لا يضع النقد كله في مرتبة منزهة مصانة من النقد المعاكس الذي يمكن أن يتدخل إذا ابتعدت البحوث النقدية عن الموضوعية أو شابها بعض العثرات..
في هذا الفضاء، يأتي كتاب الدكتور نضال الصالح الصادر حديثاً بعنوان “النص الثالث” ليلقي الضوء على مفاصل نقدية مهمة في الكتابة السورية والعربية، فهو يتضمن سبع دراسات نقدية موضوعة على تجارب نقدية أخرى، يضيء عليها وعلى ظروفها التاريخية والموضوعية وما تميزت به أو توصلت إليه من إنجازات.. ونشير هنا إلى أن النص الإبداعي المُتناول نقدياً هو الأول، أما الثاني فهو النص النقدي الذي يحاول تفكيك الأول، ليأتي دور نقد النقد وهو النص الثالث حيث تكتمل الدائرة كي يؤتي الإبداع ثماره في نهاية الأمر..
قبل الدخول في مضامين الكتاب، لابد هنا من الإشارة إلى أهمية العملية النقدية في الإبداع وأهمية نقدها لاحقاً عبر النص الثالث وهو نقد النقد، فإلى هذه العملية يرجع الفضل في كشف الكثير من الجماليات التي كانت غائبة عن المتابعين والناس العاديين، ومثال ذلك الكثير من اللوحات الفنية للمشاهير الذين ماتوا مُعدمين ثم أتت العملية النقدية لاحقاً لتكتشف أهمية أعمالهم وتعيد لها الاعتبار.. وعلى صعيد الأدب فإن روايات عالمية مثل رواية (موبي ديك) للكاتب الأميركي هرمان ملفيل الذي مات في القرن التاسع عشر، لم تلق القبول إلا في القرن العشرين بعد أن اكتشف النقاد أهميتها وأشاروا إلى مكامن الجمال فيها.. كذلك الأمر ما حصل مع رواية (غاتسبي العظيم) التي كتبها سكوت فتزجير في ثلاثينيات القرن الماضي، حيث تحولت في السبعينيات إلى واحدة من بين أفضل مئة رواية أميركية.
حول أهمية نقد النقد أو (النص الثالث) يقول الدكتور نضال الصالح: (نقد النقد شرط لإعادة الاعتبار إلى الدرس النقدي الذي قد يختلط فيه الحابل بالنابل، والأعمى بالبصير، والناقد العالم بالناقد المتعالم).. فلا يخفى على أحد المطبات التي كثيراً ما وقع فيها النقد عندما حابى التجارب الهشة وسوق بعضها أو تجنّى على بعضها الآخر، لهذا كله كان (النص الثالث) بمثابة البوصلة التي يمكنها تصحيح المسار إذا ما ضلّ النقد الطريق!.
يبدأ الصالح كتابه بدراسة عن النقد الروائي في سورية، وهي دراسة غنية بالمعلومات التي تضيء مراحل الكتابة النقدية وأهم الإصدارات التي تناولت الرواية بدءاً من كتاب (منهل الورّاد في علم الانتقاد) لصاحبه قسطاكي الحمصي، مروراً بكتاب (الأدباء العشرة) لمحمد أسعد طلس وإبراهيم الكيلاني، و(من زاوية الواقعية الحديثة) لنديم مرعشلي و(أدباء من الجزائر) لإبراهيم الكيلاني و(محاضرات عن القصة في سورية حتى الحرب العالمية الثانية) لشاكر مصطفى، و(البحث عن الجذور) لخالدة سعيد، و(أدب القصة في سورية) لعدنان بن ذريل، و(نظير زيتون.. دراسة في أدبه وحياته) لعدنان الداعوق.. يستطيع المهتم أن يلقي نظرة تاريخية على نشأة النقد في سورية وأهم الكتب التي صدرت في المراحل المختلفة، ولا يغيب عن الصالح أن يشير إلى أهمية كتاب شاكر مصطفى (محاضرات في القصة في سورية حتى الحرب العالمية الثانية) الذي كرس الجانب التطبيقي في النقد بعدما كان يغلب عليه الجانب التلخيصي..
الدراسة الثانية في الكتاب تتناول تجربة غالب هلسا الذي جمع بين الإبداع والنقد، ثم ينتقل الصالح إلى تجربة أديب النحوي في مرآة النقد، ويفرد دراسة كاملة للنقد الذي تناول تجربة الشاعر عمر أبو ريشة، ثم يتناول تجربة الناقد والروائي محيي الدين صبحي، وتحت عنوان (من جنس القصة إلى الجنس الحائر) يضيء الصالح على تجربة الناقد عبد الله أبو هيف، ويختم الكتاب بدراسة تحمل عنوان (مدخل إلى دراسة نقدية) ويتناول تجربة نبيل سليمان في الإبداع والنقد.. ولا يتوانى مؤلف الكتاب عن الإشارة إلى عثرات النقد عندما انصاع للإيديولوجيا أو تخلى عن العامل الموضوعي أو لم يكن عادلاً في تناوله للتجارب المختلفة في الفنون..
يختصر كتاب “النص الثالث” عناء كثيراً على المهتم بالخطاب النقدي، فهو يقدم عبر سبع دراسات ما يشبه البانوراما التي تضيء على عدة تجارب هامة في تاريخ الأدب الحديث، ثم يعمد إلى تفكيكها والبحث فيما أنجزته وما قصّرت فيه أو لم تسدده على أكمل وجه، وهذا كله يشير إلى حجم الجهود التي بذلها الصالح في نقده للنقد كعملية ضرورية لاكتمال الدائرة الإبداعية كما أشرنا.
يتفق النقاد والمبدعون على ضرورة الإلمام بالتطور التاريخي للفنون وطبيعة المواكبة النقدية في كل مرحلة، وهنا يضيف الدكتور نضال الصالح رأياً هاماً حول دور نقد النقد في إتمام هذه العملية التي تتكفل بإنضاج الثمار الإبداعية بشكل طبيعي وصحيح.. فالجهود الكبيرة المبذولة في هذه الدراسات تغني القارىء النهم في معرفة تطور العملية النقدية وأهم الأسماء والمؤلفات التي تركت أثراً فيها، تلك المعارف التي يقدمها الصالح في كتابه “النص الثالث” تبدو ضرورية للناقد والمبدع معاً، فالمبدعون أنفسهم يقولون إن الموهبة لا تشكل سوى عشرة بالمئة من التجربة، أما الباقي فيبنى على الدربة والخبرات عبر القراءات النقدية وتصحيح المسار إن اضطر الأمر.
الكتاب (النص الثالث – دراسات في نقد النقد)
المؤلف: الدكتور نضال الصالح
دار سويد – دمشق