أدّى العيش في المدينة إلى جملة من النتائج غير الحميدة التي تستهدف إنسانية الإنسان في الصميم؛ وفي طليعة هذه النتائج, إنشاء قطيعة صارمة بين الإنسان والطبيعة، وحذف الحوار القائم بين الطرفين، والأكيد أنّ الإنسان جزء من الطبيعة، لا يستطيع الاحتفاظ بإنسانيته في معزل عن التواصل معها، والانخراط في سياقها، ومن التسويغات التي جرى طرحها، لإقامة ما يشبه المصالحة بين ساكن المدينة وبين نفسه، ؛ على أساس أنّ التجمّع البشري الكبير وحده شرطٌ غير كافٍ ليصير مكان التجمّع مدينةً، فالمدينة لا تكون مدينة، ما لم تكن منفتحة بالأساس على قبول الآخر، بإطلاق دلالة الآخر. وفي حال انغلاقها دونه، تصير مجرّد قرية كبيرة، أو تجمّعاً خالياً من الصيغة الدالّة.
إنّ ساكن المدينة لم يخسر فقط تواصله مع الطبيعة, وحواره معها، بل خسر أيضاً قدرته على الحوار مع الآخر المتوفّر بكثرة في المدن، وبعض أسباب ذلك قائم في أنّ الحرّية الشخصية المحدودة نسبياً في القرى والأرياف والبوادي ، هي حرّية تتيحها المدن الفعلية، ولكنّ مشكلتها أنّها أخذت تؤدّي بالتدريج، إلى المزيد من تقوقع المرء حول نفسه، برغم وجوده داخل محيط زاخر بالبشر، ولكن الحياة المدينية استطاعت أن تنشئ وسائط عديدة لتعويض خسارة الحوار بين الإنسان والإنسان، تمثّلت في ممارسة أنشطة الفرجة المسرحية، التي تقع (الممارسة الاجتماعية) في صلب وجودها، بمعنى أنّ المرء يستطيع أن يمارس بعض وجوده الاجتماعي من خلال ممارسة أنشطة الفرجة، التي ابتدأت بالمسرح، وتشعّبت إلى أنشطة مضافرة وموازية كالفرجة في دور الأوبّرا، ثم السينما، والألعاب الرياضية، وما يقع في سياق ذلك. ومن تمثّلات ذلك, أنّ المرء لا يستطيع أن يشاهد عرضاً مسرحياً، أو سينمائيّاً بثياب النوم، مثلما يفعل في منزله أمام جهاز التلفزيون، بل عليه أن يرتدي ثياباً لائقة، تفرضها طبيعة الأنشطة التي يتوخّى عبرها ممارسة بعض اجتماعيته التي تقتضي احترام الآخر بمقدار مساوٍ لاحترام الذات, عبر ارتداء ملابس (لائقة) من بين عدد آخر من الاعتبارات الاجتماعية التي لا يتسع المجال لذكرها الآن، هذا الآن المبتلى حالياً بالمزيد من الانكماش الاجتماعي، بسبب الوباء. والانكماش الاجتماعي القائم في ظروفنا الراهنة يؤدّي, بما يشبه التلقائية, إلى انكماش فكري، على المستوى الفردي.