معرض «الأيقونة إنجيلنا المصوّر».. كنوز ثمينة ترتقي بالناظر إلى عالم الجمال
يعتبر القديس «لوقا» الرَّسَّام الأوَّل في المسيحية والمؤسس الأول لـ«فنّ الأيقونة» برمزيَّته وقدسيَّته التي أخذ عنها المتأخِّرون حتَّى وقتنا هذا.. من هنا تقدم «الأيقونة» وفق أساليب خاصة وبالنظر لاعتبارات لاهوتية محددة لكي تخدم أغراض العبادة وترتقي بحياة الناظر إليها من الأمور الأرضية إلى الأمور الروحية، لكنها من حيث المعنى الدقيق في اللغة اليونانية التي عُرّبت عنها أبعد من معنى «صورة» أو «شبه» أو «مثال» فـ«الأيقونة» تعني أيضاً باليونانية «الكتابة المقدسة»، لذا قد يصادفنا مصطلح «كتابة الأيقونة» بدلاً من «رسم الأيقونة».. من هنا أضحى لكلِّ أيقونة مدلولاتها العقائديَّة والتعليميَّة التي تنعكس من خلال المكونات والعناصر والرموز المشكِّلة لها بناءً على ما حدَّده الإنجيل المقدس للارتقاء إلى اللَّامنظور الذي يتبدَّى بجماله السَّماويِّ جاذباً مجامع أعين المؤمنين إليه عبر الوسائل الفنيَّة التي تعبِّر عن ذلك العالم من دون أن تتطرَّق إلى وصفه.
من هنا استضافت قاعات كنيسة الصليب المقدس بدمشق معرض الأيقونة الثاني تحت عنوان «الأيقونة إنجيلنا المصوّر» الذي يضم إضافة إلى الأيقونات بعض الأواني الكنسية القديمة وعدداً من المخطوطات الأثرية وأيقونات لرسامين معاصرين، وقد افتتح ببركة ورعاية غبطة البطريرك يوحنا العاشر بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس الذي قال:
المعرض هو رسالة سلام ومحبة من الشعب السوري ونؤكد من خلاله أننا في سورية ثابتون وصامدون رغم الأيام الصعبة والظروف القاسية التي تمر بها البلاد، وما هذه الأيقونات التي هي من عمل أبنائنا إلا دليل على الحياة وأننا في سورية باقون ومؤمنون بالرجاء ومتمسكون ببلادنا ولن نستسلم بل مستمرون في حياتنا بشكل طبيعي لأننا أبناء الحياة والرجاء وهذا هو المعنى الأول للفصح والقيامة بأننا لا نهاب الصعوبات إنما نسير نحو الأمل، كما أن الأيقونات المعروضة هي لقديسين يمثلون آباءنا وأجدادنا وكثير منهم هم من بلادنا وديارنا عاشوا للرب وأعطوا حياتهم له ونحن نفتخر بهذه الأعمال لأنها دليل على أننا نحافظ على تراثنا وعاداتنا وتقاليد آبائنا وأجدادنا ونقدمها بفرح كبير، طالبين من الرب أن يقوي الجميع للقيام بمثل هذه النشاطات في بلد تسوده المحبة والتآخي.
الوكيل البطريركي المطران أفرام معلولي تحدث عن هذا المعرض وفكرته ومضمونه فقال: هذا المعرض هو الثاني من نوعه في قاعات كنيسة الصليب، حيث هدف المعرض الأول إلى عرض الأيقونات القديمة والأدوات الكنسية القديمة أيضاً من جميع الكنائس، وهذه هي الفكرة التي انطلقنا منها من معرضنا الأول حتى وصلنا إلى فكرة المشاركة مع الرسامين المعاصرين.. وعند انتهائه لاقت فكرته استحساناً كبيراً لدى الناس والرسامين الذين أعطيت لهم الفرصة لعرض ما عندهم من أيقونات كنسية لها أصولها في الرسم لكي يتعرف إليهم الناس من خلالها، فتم وقتها الطلب جماعياً الاستمرار في إقامة هذه المعارض، ونحن بحكم أننا نحب أن نستمر لكن دائماً بتجديد وجدنا فكرة للمعرض الثاني بأن يكون فيه فرصة لمشاركة الرسامين المعاصرين، إضافة إلى قسم لعرض بعض المخطوطات الموجودة في الدار البطريركية مع بعض الأدوات الكنسية الثمينة من كنائسنا كالمباخر أو كؤوس المناولة وغيرها.. لتكون الفكرة الأساسية من معرض اليوم هي الرسام المعاصر الذي أتحنا له الفرصة لعرض أيقوناته، وليبقى هدفنا الأول والأخير من معارضنا هو التعريف بالأيقونة في بيوتنا ونشر طريقة رسمها الصحيح، حيث رسمت بأيدي أشخاص لديهم الخبرة في الرسم الكنسي، ونشكر الرب أننا حققنا هذا الهدف من المعرض الأول واليوم في المعرض الثاني نحققه ونحقق الانتشار للأيقونة التي هي بركة لبيوتنا جميعاً.. وقد حمل عنوان «الأيقونة إنجيلنا المصوّر» لأنه بالفعل كما يقول القديس يوحنا الدمشقي: «الأيقونة لغير العارفين بالقراءة والكتابة هي إنجيل مفتوح وصور تُقرأ بها كل حوادث الإنجيل من خلال الألوان والمشاهد التي ترسم على الخشب أو القماش أو الورق..». هذه هي الأيقونة وهذا هو تشجيعنا لأولادنا وهذا هو عمل القاعات في المجال الرعوي والثقافي والحضاري، ونحن سعداء بأننا نرى دعوتنا قد تمت تلبيتها من قبل الكثيرين الذين نذكر منهم وزيرة الثقافة ومن مديرية الآثار والمتاحف والكثير ممن هم على تواصل دائم معنا خاصة في مجال الرسم والترميم والأيقونات وهذا شيء نعتبره أيضاً عملاً وطنياً حضارياً ثقافياً جميلاً نأخذ بركته أولاً وأخيراً من صاحب الغبطة البطريرك يوحنا العاشر ليكون عملنا مطبوعاً بالطابع الرعوي.
الدكتور يوسف زخور المسؤول الثقافي في لجنة قاعات الصليب قال: بتوجيه ودعم من صاحب الغبطة أردنا تسليط الضوء على أهمية الأيقونة في فكر الكنيسة، فالأيقونة هي إنجيل مصور يعيد كاتبها صياغة حوادث إنجيلية أو صياغة حياة قديس أو حوادث من حياته بطريقة الرسم، حيث يستطيع من يشاهد الأيقونة أن يفهم الحادثة وكأنه يقرأها في كتاب، لذلك ندعو من يرسم الأيقونة بـ«كاتب الأيقونة»، وأيضاً التعريف برسامين معاصرين يكتبون الأيقونات.
شارك في المعرض حوالي خمسة وعشرين رسّاماً ورسّامة عرضوا أكثر من ١١٥ أيقونة من مختلف مدارس الرسم، إضافة إلى عرض أيقونة روسية، كما تم عرض حوالي ١٥ مخطوطاً منتقى بعناية من أصل أكثر من ٥٠٠ مخطوط موجود في البطريركية، كما تم عرض بعض الأواني الكنسية التاريخية والمستعملة في ليتورجيا الكنيسة. وقد أقيم هذا المعرض بفضل دعم وتوجيه صاحب الغبطة لنا نحن لجنة قاعات كنيسة الصليب المقدس وهو عمل جماعي تم بتضافر جهود كل أعضاء اللجنة والشكر الكبير في متابعة هذا العمل هو للمطران أفرام معلولي الوكيل البطريركي الذي تابع معنا ولفترات طويلة التفاصيل حتى الصغيرة منها.
الدكتور جوزيف زيتون- أمين الوثائق والمكتبة في البطريركية تحدث عن هذه المشاركة قائلاً: بناء على توجيه صاحب الغبطة تمت المشاركة في هذا المعرض الثقافي والروحي والاجتماعي المهم جداً ببعض المخطوطات ذات القيمة الأثرية وتم تنفيذ التوجيه بانتقاء مخطوطات يعود بعضها إلى ما بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر فيها الفائدة التاريخية والروحية لكون المخطوطات بحد ذاتها عبارة عن كنز أثري لا يقدر بثمن يتحدث عن ماضي الكنيسة والمجتمع الذي ترعاه البطريركية على مدى عصور.. من هنا تم انتقاء مخطوطات روحية وقانونية تتحدث عن المجامع المسكونية المقدسة وما صدر عنها من قوانين وتشريعات اتخذت في هذه المجامع التي تنظم حياة الكنيسة وإدارتها، إضافة إلى قوانين تختص في الشرع الإسلامي من محفوظات دائرة الوثائق البطريركية، إضافة إلى مخطوطات تعنى باللغة العربية وإعرابها وصرفها واللغة السريانية لكونها إحدى اللغات الطقسية في بعض قرى الريف السوري والتي لاتزال على سبيل المثال «معلولا» تتحدث بها وهي اللغة الطقسية للكنيسة الرومية الأرثوذكسية في بعض الأرياف السورية، إضافة إلى اللغتين العربية واليونانية اللتين تشكلان المرجعية الأساسية في كنيستنا الأرثوذكسية. كما تمت المشاركة بصورة عن «العهدة النبوية الشريفة» المحفوظة في «دير القديس جاورجيوس الحميراء البطريركي» التي تعود إلى السنة الرابعة للهجرة وكتبها معاوية بن أبي سفيان بإملاء من رسول الله والتي تشكل عهد أمان من الرسول الكريم «محمد» للمسيحيين في دير القديس جاورجيوس والمنطقة المحيطة باحترام عقيدتهم المسيحية وعدم المساس بها.
وقد قصد صاحب الغبطة من هذه المشاركة ومن خلال هذا التراث الأنطاكي الذي لا يقدر بثمن والذي يتوازى مع التراث المحفوظ في الجهات المماثلة في جامعة البلمند الأرثوذكسية ومعهد القديس يوحنا الدمشقي لترميم المخطوطات في دير «سيدة البلمند البطريركي»، قصد بها اطلاع أبناء الكنيسة وأبناء المجتمع السوري على هذا التراث الضخم والثمين من المخطوطات التي تحظى من غبطته بالرعاية الفائقة لجهة الحفاظ عليها وترميمها وتكشيفها بكشافات خاصة توضع بين أيدي الباحثين لأنها تشكل الذاكرة الأنطاكية الروحية والاجتماعية وهي الأساس في الذاكرة السورية.
الفنانة نوال حصني استيفانو حدثتنا عن أعمالها المشاركة فقالت: احترفت رسم الأيقونات البيزنطية منذ عام 1975، فقد درست في اليونان اختصاص الترميم ثم أضفت إليه اختصاص الأيقونات البيزنطية مدة ثلاث سنوات بعدها رجعت إلى سورية لأمارس الرسم وخاصة رسم الأيقونة البيزنطية فأنا أحبها وأشعر بأنها تعطيني الحياة والقوة والسعادة والراحة النفسية وكلما نظرنا إليها أحببناها أكثر لأننا نتذكر من خلالها الإنجيل المقدس، لذلك نحن نرسمها على الخشب لكي تعمر أكثر فترة ممكنة ونستعمل فيها الألوان الترابية وصفار البيض والخل مع قليل جداً من الماء لأن هذه المواد لها رموز معينة.. من هنا لم أحتفظ بطرق وأصول رسمها لنفسي فبدأت بتعليمها ولاأزال لمن يرغب وحتى لمن لا يسعفه الوقت بالمجيء إلى دمشق فأنا أعطي تعليماتي له عن طريق «النت» وأنا سعيدة بذلك وبوجودهم معي.. وقد شاركت في عدة معارض داخل سورية وخارجها واليوم أشارك في هذا المعرض بعد مشاركتي الأولى عام 2019 فقدمت تسع أيقونات مختلفة القياسات تمثل السيدة العذراء والقديس يوحنا الدمشقي والملاك جبرائيل والصليب والقديس ماما وأيقونة من القياس الكبير تمثل إيليا النبي.
وتحدث المهندس الفنان سامر سمعان عن مشاركته قائلاً: انطلاقاً من أن كتابة الأيقونة هي تصوير يذكِّر بحضور الأشخاص القديسين وسط الجماعة المؤمنة ويشرح الأحداث الإنجيلية وتعاليم الكتاب المقدس بالخط واللون كرسالة تعليمية للمؤمنين أشارك اليوم بأربع أيقونات مرسومة على خشب الجوز الطبيعي وعلى خشب الصنوبر المعتق تمثل السيد المسيح والسيدة العذراء والقديس متى وذلك بعد مشاركتي في المعرض الأول.. وأنا أحببت هذا الفنّ الكنسي فبعد نيلي شهادة بكالوريوس في الهندسة المدنية درست الفنون التشكيلية في معهد سهيل الأحدب وبدأت بدراسة رسم الأيقونة في قبرص وعلى يد رسام من رومانيا، ومن ثم خلال زيارات إلى اليونان وروسيا، وأنا اليوم أمارس رسم الأيقونات والقبب والأسقف والجداريات، إضافة إلى فنّ الأيقونة باستخدام الفسيفساء، إضافة إلى اختصاصي بالهندسة الداخلية للكنائس ومفروشاتها ومتمماتها الخشبية والرخامية حسب الأصول البيزنطية منذ أكثر من ثلاثين عاماً.
وتقول الفنانة التشكيلية جميلة كاترينا عن مشاركتها في المعرض: أشارك اليوم بسبع أيقونات تمثل السيدة العذراء والسيد المسيح ومنها أيقونتان لـ«باندا ناسا العجائبية» وأيقونة النسوة والملاك والقبر الفارغ «القيامة».. وهذه مشاركتي الأولى في معرض للأيقونات فأنا فنانة تشكيلية وعضو اتحاد الفنانين التشكيليين وأمارس الرسم منذ أربعين عاماً، وأعمالي مقتناة في عدة وزارات وشاركت بمعارض كثيرة داخل سورية وخارجها في أميركا وكندا واليابان والسويد، ومنذ أكثر من عشر سنوات قررت أن أكتب أيقونات إلى أن طلب مني راهب وهو في اليونان رسم أيقونة «الضابط الكل» النادرة منذ سبعة أشهر فكانت البداية والعمل وفق الأسلوب البيزنطي الأصلي.
أما الفنان أيمن نعمة فتحدث عن مشاركته فقال: استهواني رسم الأيقونة منذ بداياتي الأولى لكني بدأت بشكل فعلي كرسام أيقونة احترافي سنة 1992 وفق النمط البيزنطي من المدرسة المقدونية مستخدماً الألوان الترابية الممزوجة بالبيض والخل وخلفيات ورق الذهب، إضافة الى رسم الأيقونات الجدارية، وقد رسمت في أهم الأديار في لبنان مثل دير «الشفيعة الحارة» في الكورة ودير «رقاد السيدة» حمطورة كسبا، إضافة إلى أعمالي في عدة دول مثل فرنسا وغواتيمالا وفنزويلا وكندا ولبنان.. وهذه هي مشاركتي الثانية في معرض الأيقونة في هذه القاعة، وقد شاركت بتسعة أعمال تنتمي جميعها إلى المدرسة المقدونية وتمثل السيد المسيح والسيدة العذراء والقديس بولس.
الفنانة كاتيا راجحة حدثتنا عن مشاركتها قائلة: تعلمت رسم الأيقونات في «دير الشيروبيم» و«دير القديس جاورجيوس» في صيدنايا عام ٢٠٠٨ على يد الراهب سمعان أيوب الذي علمني مراحل وخطوات رسم الأيقونة البيزنطية ابتداء من تأسيس الخشبة ومعجنتها ومن ثم كيفية وضع الذهب وبعدها تلوين الأيقونة بألوان ترابية ومزج الألوان بصفار البيض والخل والماء، بعدها بدأت بالرسم والتدريب عدة سنوات وعرضت بعض الأيقونات في أول معرض شاركت فيه وكان في «عربين» وقتذاك والآن أشارك في هذا المعرض بأربع أيقونات تمثل السيد المسيح والسيدة العذراء والقديس يوسف النجار.
الفنان ميلاد جورج حلاق- خريج كلية الفنون الجميلة مرتل وعضو في كورال الكنارة الروحية وجوقة القديس يوحنا الدمشقي قال: شاركت في العديد من المعارض الفنية التشكيلية لكن هذه هي المشاركة الأولى لي في معرض خاص بالأيقونة وشاركت بثلاث أيقونات تمثل القديس إيليان الحمصي والقديس إسحق السوري والقديس أفرام السوري وتمت كتابتها على الطريقة البيزنطية التي تحمل معاني ورموزاً ودلالات كثيرة، وهذه المشاركة كانت بمثابة خطوة جديدة في طريق تنمية المهارات والقدرات في هذا الفن العريق وكما هو معروف بأن الفن البيزنطي كان فناً شاملاً ويحمل في طياته الكثير من الإبداع والجمال، ولسورية دور كبير في نشره من خلال حقبة المملكة التدمرية، فالفن التدمري هو فنّ بيزنطي بطابع سوري وشرقي كان يصور على هيئة منحوتات توضع على قبور الملوك وذوي المراتب المرموقة في تلك الفترة إلى أن انحدر هذا الفن ليتخذ الطابع الديني ويصور لنا القداسة من منظور آخر، ونشأت عدة مدارس فنية متخصصة بهذا الفن ومن أشهرها المدرسة الحلبية ذات الطابع السوري والشرقي والمزين بالكتابات العربية واستمر هذا الفن إلى يومنا هذا وتوارثته الأجيال إلى أن استقر ترحاله في أيامنا هذه وتسلمنا هذه الرسالة لنكمل نشرها للأجيال القادمة.
تصوير: طارق الحسنية