مروان الخاطر .. يُهديكم أجمل «مُختاراته» من الشعر ويمضي
أن تعرفَ ما يجري،
أو تجهلَ ما يجري
لا فرق؛
رجلاك مقيدتان،
ويداك مكبلتان،
وغريبٌ صوت الحق..
(مروان الخاطر)
بين (18 آذار 1943 و5 نيسان 2021)، ذلك الحيز من السنين؛ الذي ستمنحه الحياة لمروان الخاطر، ليقول كلمته ويمضي ..
تلك السنون، التي كان يعلم الخاطر الذي ودّع دنياه أمس، إلى دنيا مُختلفة؛ إنّ حيزها محدود مهما طالت وامتدت، ومن ثم كان عليه أن يُغنيها إبداعاً باذخاً ومتنوعاً على الدوام، وإن تجلى أكثر ما تجلى في الشعر، وفي الصحافة، والأخيرة لاسيما في مناخاتها السمعية، وأقصد بذلك الفنون الإذاعية التي أمسى فيها أستاذاً يتذكر أستاذيته غير قليلٍ من تلاميذه المخلصين.
ابن البوكمال على الطرف الشرقي لسورية، والمُقيم في دمشق حتى النزع الأخير، كثيراً ما نقل تلك المناخات بكل ألوانها شعراً فراتياً عذباً في أكثر من مجموعة شعرية، وهو الذي خبر أكثر من جغرافية سورية، حتى أصبحت سورية قصيدة حب في مختلف دواوينه الشعرية.. وكان قبل نتاجه الإبداعي والصحفي، أن عمل في التدريس في كل من دير الزور والحسكة، وتوسع شغله في ذلك المجال – التدريس لأبعد من الحدود السورية إلى دولة اليمن لسنوات، ومن ثم ليختم هذا الجانب من حياته، ويتجه بكل شغفه لإذاعة دمشق ليعمل فيها مذيعاً ومُعِدّاً، ثم قارئ نصوص.
غير أن الإبداع الأبهى في حياة مروان الخاطر؛ كان ذلك الرابط الحميمي مع الكثيرين، وهذا ما يُشير إليه أمران، الأول هو رثاء الأصدقاء له بكل هذه الحميمية الحارة والدافئة، والأمر الآخر كان في آخر ما أصدره الراحل، وهو كتابه (مختارات)، إصدار الهيئة العامة السورية للكتاب – وزارة الثقافة أواخر السنة الماضية، وفيه يجمع خيوط تجربته الشعرية من أطرافها كلها، وكان سابقاً قد نشرها مُتفرقة في مجموعات مُتعددة نذكر منها: «الناي الجريح -1962، حمدان – 1967، أصوات في سمع الزمن المقهور – 1970، نشيد الغربة – 1975، أخاف عليك فابتعدي – 1979، أغاني الفرات – 1994)، وكان الراحل قبل إصدار (مُختاراته) الأخيرة قد أصدر (الأعمال الشعرية)، التي تضمنت مجموعاته الشعرية الست السابق ذكرها، وكأن الرجل في أيامه الأخيرة، قد شعر بدنو الرحيل، فأخذ وعلى مهلٍ وتأمل يجمع أغراضه الأثيرة على نفسه، في كتابين أنيقين مفعمين بكل الجماليات الشعرية.
في الكتاب الأول يجمع من خلاله كل ما كتبه من شعر، وفي الكتاب الثاني، يجمع أجمل قوله الشعري من وجهة نظره بالتأكيد، وهنا أشير إلى قصائده في هذه (المُختارات) التي أهداها للأصدقاء الشعراء – الإخوة كما يطلق عليهم في عناوين تلك القصائد، ومنهم: عبد العزيز المقالح، إسماعيل الوريث، عبد الله البردوني، وكمال ناصر .. وإذا ما وقفنا في فاتحة هذه (المُختارات)، فالقصيدة الأولى التي يفتتح بها مُختاراته الشعرية، هي نص مُهدى لصديقه الشاعر السوري المُغترب علي كنعان:
من أين أبدأ أيها السّاري؛
ولا مسرى لديَّ ..
غير التوغل في براري الروح،
أطلقُ وعلةً، وأصيد أخرى،
ثم أترك للمدى
حريّة التشكيل، يرسمُ ما يشاءُ،
وليس غير اللوحة المعروفة الألوان ..
تذكرها، وتحملك معكْ ..
هذا النص الذي يطول لأكثر من خمس صفحات، والذي عنونه بـ«دوائر»، وهي أشبه بمرثية، وخلاصة تجربة حياة، وكأنه يضع فيها نتائج تأملاته في هذه الدنيا، من الولادة وحتى حسن الختام:
تموتُ كيف تشاءُ لكنْ
مثلما شاؤوا ستدفنُ واقفاً ..
ضاقَ الترابُ
بالسائرين عليه منا،
كيف لم يضق الترابُ ببائعيه؟!
أكادُ أهوي مثلما شاؤوا،
وأمسك بالذي مازال ينبضُ ..
يا (أبا رؤيا) أسائلك الجوابُ ..
لا أعرف إن كان «أبو رؤيا»، وهو هنا شاعرنا علي كنعان، قد بعث إليه بالجواب، غير أن الشاعر كنعان كان من أوائل الذين عبروا عن صدمتهم برحيل (أبا ضاهر)، فيكتب له بما يشي بالفقد المرعب حد تمني اللحاق واللقاء ولو في عالمٍ مُختلف، وهذا إن دلّ على أمر، فهو سرّ الصداقة التي لا يختبرها إلا من عاشها بكلّ تفاصيلها، فهل كان هذا هو الجواب الذي أراده الشاعر من صديقه؟! يكتب علي كنعان:
فجيعتي صاعقة بك يا مروان!
فاجعة تعتصر القلب وتخنق الأنفاس .. فكيف ينقض هذا الخبر الصاعق يا مروان الخاطر، وكم أرجو أن يزداد هذا الخافق المعطوب خللاً وقصوراً عسى أن ألحق بك، يا صديق الزمن الجميل ويا شقيق الروح التوأم، فلم يعد من طعم للحياة يطاق بعدك .. فلماذا سمحت لهذا الغراب الغدّار بأن يطير بك بعيداً عني وعن محبيك وطلابك وأهلك وأصدقائك؟ كيف ولماذا في عز الربيع ولم يستكمل النيروز أسبوعه الثالث؟ كيف ولماذا أيها الشاعر المرهف الحبيب والإنسان المثالي أدباً وخلقاً وإبداعاً رائداً؟!
ويُضيف الشاعر كنعان: الأحباء الذين فقدتهم قبلك بالعشرات، لكن غيابك عن العين في فلك.. والدنيا كلها في فلك آخر. أتذكر أن ديوانك (حمدان) كان رائد الشعر الحديث في سورية، وبقيت حتى الآن عاجزاً عن الكتابة عنه وعنك، أيها الشاعر المعلم الرائد، والقدوة المثلى التي لا يمكن لنا أن نصل إلى ظلال عليائها.
ومثل هذه العلاقة الحميمة مع الراحل ذكرها غير الشاعر كنعان، فها هو الشاعر مفيد خنسة يتذكره كأخيه وأبيه اللذين فقدهما منذ زمن:
ماذا سأكتب يا مروان للشهب؟
وكنت أقرب من عيني الى هدبي
رحلت، والحرب مازالت دوائرها
دوارة، كلهيب النار بالقصب
قد أبعدتنا، فما نفع الدموع على
من عاد كالطير محمولاً على الخشب
عذراً أبا ضاهر بعدي فأنت أخي،
والآن أصبحت بالفقدان مثل أبي
أما من زاملته لسنوات في أورقة الإذاعة السورية، نهلة السوسو، فتقول: هنا، الكلام لا يُبحث عنه لاختيار ما يليق بالفجيعة.. لأن الجيرة التي جمعتنا سنوات مديدة وتضاعفت مودةً حين كنتَ من خيرة الموجهين التربويين لأبنائي قبل أن نتلازم في العمل الإذاعي في الدائرة الثقافية، سنوات، وسنوات.
يا إلهي يا أبا ضاهر كم تعلمنا منك الاستقامة التي لا تعرف الميلان حتى لو أطبقت السماء على الأرض! كم تعلمنا منك أن تُقال الكلمة ولو تشابهت مع حدّ السيف البتار. كنت شخصاً ليس من هذا الزمان بنقاء عقلك وسريرتك وعلو قامتك واعتزازك بنفسك وكرامتك وموقعك.
ألف حكاية تُروى عنك ولن أنتهي.. ولا تغادرني صورتك حين ذهبت لأعزيك برفيقة حياتك منذ شهور، وكنت متماسكاً، صبوراً، بين أبنائك، لكن قلبي وجَفَ حين كنت أستمع إليك؛ لأنه قال لي: هذا الشاعر الرقيق الوفي سيذهب إلى رفيقة حياته ولن يطيل البقاء في دنيا الفناء هذه.
ومن شعر الراحل مروان الخاطر نختم هذه التحية لروحه:
قانعٌ بالخبز والماء، وأقنعتُ الصغارْ
أنَّ هذي الشمس ملكي، والنجومْ
بعض جُلاسي،
خذوا الدنيا وخلّوا فوق رأسي
خيمة الشعرِ، فللشعرِ تخومْ
فوق ما تحصونَ،
أو تدرونَ..
من علم السَّفارْ
أيها الشعرُ بريئاً كالصغارْ
فكن الآن معي.