الشاعرة سائدة أبو راس.. تخرج بالقصيدة إلى مستمعٍ وقارئ معاً

الذاكرة
تلك الحقيقةُ المُشردة؛
مقبرةٌ الآن..
اجترارُ اللحظة للحظة
قاعٌ يزخرُ بالغياب،
وحمولةٌ واسعةٌ من الحنين…

ربما تختلفُ الشاعرة سائدة أبو راس عن الكثير ممن كتب الشعر؛ في نظرتها للقصيدة، فهي ترى أن القصيدة خُلقت لا لتنامَ طويلاً بين دفتي كتاب وحسب، تنتظر احتمال قارئٍ قد يأتي وقد لا يأتي، وهي وأن كانت تصدر قصائدها في مجموعاتٍ شعرية لا تخلو من أناقة في طباعتها، غير أنها لا تكتفي بالطباعة وحسب، بل ثمة محاولة للشاعرة (أبو راس)، في إعادة القصيدة إلى زمنها الشفاهي، وهي المُقتنعة تماماً بأننا – في العالم العربي – ما نزالُ (أمة شفاهية)، وإلا كيف نجحت فنون الدراما التلفزيونية دون سواها من فنون الإبداع، فيما بقي فنٌ راقٍ مثل (التشكيل) – على سبيل المثال – – نخبوياً وبعيداً عن قاعدة جماهيرية، ومثله أيضاً بقي الشعرُ شبه مهجور إلا ضمن دائرته المحدودة..
وحتى لا تبقى القصيدة في الحيز الضيق؛ اشتغلت سائدة أبو راس على القصيدة الشفاهية، بعد أن استثمرت الحوامل الجديدة من وسائل التواصل الاجتماعي لاسيما (اليوتيوب) لتوصيل رسالتها الشعرية بما يوازي الأغنية المسموعة، وذلك بما أرفقت مع القصيدة المسموعة من موسيقا وغيرها من عناصر الجذب، ولاسيما بما تملكه الشاعرة نفسها من تقنيات الإلقاء العذبة، ورغم ذلك، ومع انتشار قصائدها المسموعة على مواقع التواصل الاجتماعي بحلة إخراجية لافتة، تصرُّ أيضاً على الإصدار الورقي ضمن مجموعات شعرية..

أنا
جناحٌ من أثير،
ومحبرةٌ من أرق،
موجُ البحر؛
طريقُ نجاتي..
امرأةٌ لا تخشى الغرق..
ومؤخراً ورغم أنها، ومنذ أولى عتبات مجموعتها “أبعد من الحلم..!”، تُعلن (الشعر) على غلاف هذه المجموعة، غير أنه ومع تلقي القصائد، فإنّ الشاعرة السورية المُغتربة سائدة أبو راس؛ تُحاولُ أن تُشرك، أو أن تأتي بأكثر من نوعٍ إبداعي لعمارة قصيدتها، ولعلّ أول تلك الأنواع هو السرد، فثمة روح حكائية قلما تخلو منها قصيدة من قصائد (أبعد من الحلم)..
هذا السرد الذي أعطى القصيدة أبعاداً أخرى قد لا تستطيع شعرية القصيدة أن تنجزها بمفردها، ومن هنا كانت هذه النصوص الشعرية التي تُخوّض في القلق الإنساني، وإلى حدٍّ بعيد تسلك سبل المغامرة، والبحث في المجهول والشك، وحتى وهي تستعرض لواعج الحب عبر ما تتناوله نصوص المجموعة من محاولات رفض للمسارات المعتادة، والتي من خلالها تُوسع دائرة الممكنات والاحتمالات في النص الشعري..
“أنا التي..
نذرتُ لقلبي
قمراً وشمساً..
ونجمين عظيمين؛
لتُبحر السفينة؛
أوصدتُ في وجه الريح بابي،
وجلستُ خلفه؛
انتظرُ الشروق
كعاشقةٍ يتيمة!”
في النص السابق، سيحتار الملتقي كيف “يُجنس” المحتوى، فهو من جهة يقترب كثيراً من (مكر) القصة القصيرة جداً، بما يحمله النص من ملامح الإخبار والحدث والوصف، ومن جهةٍ أخرى يبحرُ بعيداً في شعريةٍ عالية من خلال “الأنا” الشعرية الرومانتيكية، وهو الأمر الذي وسّع من الحجم الضيّق للعبارة، فكان استثمار ملامح نوعين أدبيين لصياغة مختلفة، ومن ثم لبناء حيز أوسع مما هو ظاهر، تماماً كبيت دمشقيٍّ عتيق، حيث يوحي الشكل الخارجي بالاقتصاد الشديد، لكن إذا ما دخلت من بوابته سيفاجئك الغنى البصري الداخلي من بحرة ونارنج وإيوان وطيور وغير ذلك من عالمٍ متنوع..
سائدة أبو راس، هكذا تبني قصائدها بهذه المُخاتلة، حتى لتبدو هنا تكمن لعبتها الشعرية، أو فاعلية النص الفنية، وهو ما يفتح للقصيدة سديماً شاسعاً من مخيلتها الشعرية على فضاءات مواربة وربما مُحيرة، تزيد المشهد البصري– النصي بالكلمات والصور، وكذلك الإيحاءات والتأويلات التي كانت ملعباً ساحراً للشاعرة لاستعراض تجربتها اللغوية واللفظية.
“لا تقولي أحبُه،
قولي:
أحببتُ إيقاع قلبي..
لا تقولي عشقته،
قولي:
عشقتُ فراشة أنوثتي
عندما كانت تتنقلُ بين يديه..”

صحيح أن الشاعرة أبو راس، لا تتوسل المجاز التقليدي من تشابيه وكنايات، غير أن ثمة بنية أخرى تزخرف بها نصها الشعري حتى ليبدو باذخاً بها، وهو الإيقاع الداخلي للقصيدة، وذلك بما تستخدمه الشاعرة من “لازمات” في النص الواحد، لازمات تستثمرها الشاعرة فنيّاً بأكثر من اتجاه، فهو يُعوضها أولاً عن التوسل اللغوي والصور المجازية، وثانياً يُعطي موسيقا عامرة للنص، كما أن حالة التكرار في اللازمة يوحي بحالة عاطفية طويلة، أو حالة إنسانية تراجيدية تبدو دهرية، والحقيقة قلما تخلو قصيدة من قصائد هذه المجموعة من لازمة قد تبدأ بها النص، أو تشكّل خاتمة مشتركة لمجموعة ومضات النص، وهو ما يُمكن القارئ من قراءة الومضة الشعرية مستقلة عن النص ككل، كما يُتيح له العكس أيضاً قراءة المتواليات الشعرية متصلة ضمن مقطعيات شعرية تتناسل وتتوالد من ذات النص من مثل “لا تقولي” التي تُكررها كلازمة في بداية كل مقطع من القصيدة التي عنونتها بـ”رسالة إلى عاشقةٍ شابة”، أو بعبارة “أقرُّ أني” في القصيدة المعنونة بـ”اعترافات امرأة”، أو “كُرمى لعينيك” في القصيدة التي أخذت اللازمة نفسها عنواناً، وغيرها الكثير حتى بدت هذه “اللازمات” أسلوباً، أو من ملامح القول الشعري لدى سائدة أبو راس.. إذ ثمة حقلٍ معرفي للمفردة الموحية هنا، وفسحة لتحويل الصور إلى أصوات داخلية من مفردات مُعتادة وأليفة في حضورها اليومي..
“لي موطنٌ
لو أهدى الشمسَ نورَه؛
لارتوت دفئاً،
وغارت منهُ،
فأمطرت السماءُ
ياسميناً بالكثير”
لا تشغل الشاعرة أبو راس قصيدتها بالكثير أو تُحمّلها بحمولاتٍ أكثر مما تحتمل، فشواغلُ القول الشعري لديها يذهب بمناحٍ ثلاثة على الأكثر: الأول: الرجل الذي تتعدد ملامحه: الحبيب، الزوج وغير ذلك، ذلك الكائن الذي من حسن الحظ إنّ له أكتافاً يُمكن للمرأة لاسيما المرأة العاشقة إذا ما كانت تلك الأكتاف، أو تحولت جداراً آمناً أن تسند أو ترخي برأسها عليها بسلام، غير أن الشك كان دائماً يحوم في قوة الجدار– الكتف، شك يستحيل به أن نصل من خلاله إلى يقين قوته أو هشاشته، ومن هنا كان خطابها– الرسالة لزميلتها الأنثى أن انتبهي قبل أن تسندي رأسك إلى ذلك الجدار– الكتف المشكوك بقوته؛ أن اصنعي جدارك الخاص خلفه حتى إذا ما هوى على حين خيبة أو خذلان، يكون جدارك جاهزاً ليمنعك من السقوط.. هنا حيث تبدو ظلال التجربة واضحة، لكنها تحتال في تنكرها ومورابتها كلما اقتربت الحالة -الطاقة المبددة- إلى غايتها الشعرية في السؤال التواصلي عن الآخر (الرجل) الماكث هناك خلف أحجار الكلمات يستظل ويستلذ بحليب المخيلة الساخنة..
“كُرمى لعينيك؛
سأنثرُ الحُبَّ زرعاً
على أهداب الشمس،
وأشهدُ
أني أنا من بدّل ستارها،
وألبسها مناديلَ
من دفء مهرمانِ يديك.”
من الشواغل الأخرى التي تهتمّ القصيدة بها عند الشاعرة: الغربة عن الوطن، وهو الأمر الذي يأتي صوراً ولوحات تشكيلية في رسم مشاهد بصرية لأمكنة من الوطن البعيد، تأتي بصورة مفردات حارة بحواكيرها ودجاجاتها وكل ملاعب الطفولة التي تنمو فيها أعشاب الذاكرة، أو قد تأتي بصور شوق حارقة لأم أضنتّها مسافات تفصلها عن أولادها، أو صور وطن ابتلي بوجوه الخراب التي تحاول نهشه من كل جهاته..
فيما الشاغل الثالث من أغراض القصيدة لدى الشاعرة سائدة أبو راس؛ فهو الهم الإنساني بشكلٍ عام، والذي اتخذ منحى تأملي فلسفي في صورة هذا الإنسان التراجيدي الذي يتلقى السهام كثورٍ إسباني في ساحة اللعب، فهو يُدمى ويُنكّل به فقط لأجل متعة سادية لجمهور عدواني..
“على الصفحة الأولى؛
نسيمُ أول لقاء،
وعلى الصفحة الأخيرة؛
يومٌ مُلطخٌ بالذكرى،
وبين السطور؛
نفذَ العمر.”

الذاكرة
بصمةٌ من أثير،
صرخةٌ مخنوقةٌ صامتة،
ليلٌ مشرّعُ الأبواب،
جنونُ اللهفة على اللهفة،
جرحُ السّاعة المفتوح،
ونزيفُ الدمع المؤجل..

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار