طلابُ أوركسترا معهد صلحي الوادي.. الموسيقا طوقُ نجاة!
أن تستمعَ إلى النغم وهو يسيلُ مثل ماءِ نافورة لطيفٍ على جسد الزمن هو أمرٌ ممتعٌ كما لو أنّك في قطعة من النعيم.. هكذا كنّا ونحن في حفل “أوركسترا معهد صلحي الوادي” الذي قُدّم مؤخراً في “خان أسعد باشا” بدمشق، لولا القليل من العثرات التي كان من الممكن تلافيها بزيادة الحرص والتشديد.. طلابٌ عاندوا أياماً وضعتهُم في مهبّ واقعٍ ثقيلٍ وآثارِ حربٍ نفسيةٍ وجسدية شُنّت على بلدهم، فتمسكّوا بطوقِ الموسيقا ليصلوا بها وبنا إلى برّ النجاة وشاطئ راحة البال.. ابتدأ الحفل، بعد النشيد العربي السوري، بأغنية “حوّل يا غنّام” التي اشتهرت بها المطربة السورية نجاح سلام أدّاها الطالب زين عمّار بصوت رقيق وناعم، ثم كنا مع موسيقا أغنية “هالأسمر اللون” بتوزيعٍ يتفرّد به المايسترو مهدي المهدي قائد الأوركسترا الذي قال لـ”تشرين”: “التوزيع الهارموني بحسب رؤيتي هو السجادة الحمراء التي يمشي عليها اللحن الأساسي فتزيده رونقاً وأبّهة. لا أريدُ أنْ تكونَ موسيقانا الشرقية وحيدةَ خلية أو أن يبقى نمط التكرار المُعتمد منذ اليونان في المعابد كنوع من التخدير للمستمع. نحاول ألّا نجعل المستمعين يملّون من الخط اللحني الواحد بل جعله يفكّر بما يسمعه”.. ورغم سِحر المكان وتلك الفخامة التاريخية التي كانت تحيط بنا إلا أن اختيار المكان لم يكن ملائماً من وجهة نظرنا لأنه سبّب تشويشاً في ارتداد صدى الصوت من الأبهاء وقِباب السقف، اجتمعَ مع الازدحام الشديد لأهالي الطلبة وإخوتهم الصغار الذين زادوا الضجة وشوّشوا على العازفين وعلى من حضر ليصغي ويستمتع.
نسأل المهدي عن سبب اختيار المكان يقول: “هذا المكان هو فعلاً غير مخصص للعزف والغناء. لكن فكرتي هي أنْ يكون لدى العازف إحساسٌ بالمكان الأثري. أنْ يكونَ هناك تفاعل بين العازفين والمكان بما يجعل من إحساس العازف أكثر أهمية من أن يعزف بدقة أكاديمية فقط مثل الآلة أو المكنة من دون أي شعور أو من دون تآلف مع روح القطعة التي يؤدّيها حتى لو أدّها ببعض الخلل الذي نعمل على إصلاحه مع التدريبات والزمن… بهذا المعنى يكون الطلابُ قد تأسسوا على جوهر الموسيقا؛ أي الإحساس”!
بعد ذلك استمعنا إلى أداءٍ رائع من الطالب عمر الشالط لأغنية صعبة جداً للعملاق محمد عبد الوهاب هي “مُضناك جفاه مرقدُه” ساهم التوزيعُ وغناء الكورال المميز في جعلها أكثر لطافة من الثقل التطريبي الموجود في الأغنية الأساس. لذلك سألنا الفنان سومر النجار مدرّب الكورال عن سبب اختيار هذه المقطوعات تحديداً من ضمن خيارات عديدة أكثر سهولة للطلاب، أجاب لـ”تشرين”: اختيارُ المقطوعات كان بالتنسيق مع إدارة المعهد، وبيني وبين المايسترو مهدي المهدي. درّبتُ الكورال على هذه الأغاني (والتوليفة الأخيرة هي نفسها التي قدّمتُها في حفلتي الشخصية على مسرح دار الأوبرا) لأثبتَ للجمهور أن هؤلاء الأطفال لديهم القدرة على أن يقدّموا ما يقدّمُه الكبار من مطربي سورية مثل الموشحات أو الفولكلور السوري وبعض الأعمال الحديثة نسبياً. فليس من السهل بكل صراحة أن يُقدّمَ شابٌ يافعٌ أغنية “مُضناك” وباعتقادي قدّمها بامتياز جداً. وكنتُ حريصاً كل الوقت وطول الشهر من التدريب على أن نهتم بكل التفاصيل، وفي المرات القادمة سأعمل معهم على تدريباتٍ أصعب ليصبحوا مُغني “سولو/إفراديين” لاحقاً إن أحبّوا وأرادوا ذلك”.
ثم استمعنا إلى مقطوعات: “قضية عم أحمد” كان فيها عزفُ بيانو منفرد للطالبة ريتا جعلوك، ثم “لونغا نهاوند” كان فيها على القانون لكل من الطالبتين سلمى وميس خلوف.. لكن في حفلٍ قوامُه ونسغُه الأساس هو الطلاب كان لا بدّ من أن نستمع مِنهم ولهم، فحدّثتنا الطالبة يارا مطر (14 سنة) من قلبها وبكامل بهجتها بما أنجزت في هذه الحفلة. فقالت: “أشعر أنها نقلة جديدة في حياتي لأننا عادةً كنا نعزفُ موسيقا كلاسيكية، لكننا اليوم ومنذ التدريبات كنّا مُصرّين على أن تكون المقطوعات هي موسيقا شرقية أو أعمال غنائية تراثية. آمَلُ أن أنشرَ هذه الموسيقا العربية في باقي البلاد الغربية لأنني أحبّها وأشعر أنها تشبهنا. أشعر أنني في المعهد أتطور كثيراً لأننا نتحدّى أنفسنا ونحاول في كل تمرين أن نعزف مقطوعات تزداد صعوبة عن السابقات. أحبُّ أجواء معهد صلحي الوادي جداً وأحب تعامل الأستاذ مهدي المهدي معنا… والموسيقا تزيدُ ثقتي بنفسي لأنني في كل مرة أعزف فيها أنسى العالم”.
فيما قالت الطالبة لارا دريوسي 13 سنة فتقول: “بالنسبة لي المشاركة هي دافعٌ قويٌّ يُفرح قلبي ويجعلني أتحدّى نفسي أولاً وأتنافس مع زملائي لأصبح أفضل. أحلمُ أن أصبح فنانة مشهورة على آلة الكمان وأن أستمر في درب الموسيقا كما كان العظماء يفعلون. الموسيقا تساعدني في إنجاز واجباتي المدرسة وأحياناً أساعدُ زملائي في الإجابة على أسئلة موسيقية لا يعرفون أجوبتها”.
أما الطالبة سيرينا بغدان فتقول: “كلما عزفتُ على الكمان أشعرُ أنّ روحي صارت خفيفة وأحزاني تختفي… وأحياناً أشعرُ أنني أطير مثل الفراشات، وأحياناً أتعبُ من فروض المدرسة ومشاكلي مع صديقاتي فألجأ إلى آلتي الكمان وأحدّثها بما في قلبي. مشاركتي اليوم في حفلة المعهد ستبقى ذكرى لا تنسى سأفتخر بها دائماً”.
يُذكر أن الأوركسترا تأسست على يد الأستاذ المايسترو عدنان فتح الله عام 2008 وتوقفت عام 2013 بسبب الحرب على سورية وصعوبة حضور الطلاب، ثم أعاد الأستاذ مهدي المهدي إحياءها في بداية عام 2019… وهذا ثاني حفل لها بعد حفلها في مركز ثقافي كفرسوسة.
تصوير: صالح علوان