نصوص خلال الحروب.. أم نصوص الاستشرافات الكبرى؟
أثرت الحروب تاريخياً في الإبداع، ولم تكن حتى الأساطير الأولى بمنجاة عن الأحداث الكبرى التي عصفت في المناطق المختلفة من العالم مع ما تبعها من أسئلة ضخمة تتعلق بوجود الإنسان والقيم وضرورة الفن.. وبقدر ما كان الإبداع استشرافياً للمستقبل تأثر بالأحداث فبدل أدواته ورؤاه كي يعيد بوصلة البشر إلى مكانها الصحيح، هذا حدث في نشوء المدرسة الدادائية والسريالية والتطورات التي حصلت لاحقاً، أما على صعيد النصوص، فقد أثرت جميع الحروب على منطقتنا في الأدب وأساليب التعبير والانفعالات التي رافقت الأحداث، بل إن بعض النقاد يرجعون الانعطافات الكبرى في الأدب إلى الأحداث الكبرى في التاريخ تبعاً لما أثارته من أسئلة ومواقف حول التراث والحداثة.
خلال الحرب العدوانية التي شُنت على سورية، نستطيع أن نتحدث عن مخاضات شهدتها النصوص لكنها لم تصل إلى حد الانعطافات، فعلى صعيد الرواية صدرت الكثير من الأعمال التي تتحدث عن هذه المرحلة عبر شخصيات عايشت الحرب على سورية والفقدان وشظف العيش الذي رافقها، كما تركت هذه الحرب أثرها على الدراما والفن التشكيلي والموسيقا والمسرح، إذ لا يمكن أن ينفصل الفن عن المحيط بل يفترض أن يكون منارة تضيء الطريق في الأوقات الصعبة التي تمر بها المجتمعات.
على صعيد النص الشعري، أدت الحرب الإرهابية على سورية إلى صعود أسئلة جديدة إلى السطح فأصبحت القصيدة في بعض حالاتها تميل إلى طرح الأفكار، وربما هذا اختص بالتجارب الشعرية الناضجة، أما على صعيد التجارب الشابة، فقد أغرقت القصيدة في اليوميات وتسجيل الأحداث الآنية والمعاناة الفردية، لتترك لنا كماً هائلاً من النثريات التي قال عنها النقاد: إنها لا تنتمي إلى الشعر في شيء، كما صعدت أسماء كثيرة من الشعراء الجدد الذين لم يكونوا معروفين سابقاً, وذلك بفضل وسائل التواصل الاجتماعي التي راحت تتبنى موضوع النشر الإلكتروني والاكتفاء بالوجود على الإنترنت, وفي الحالات القليلة تطور الأمر إلى الطباعة الورقية عند بعض الشعراء.. نستطيع اليوم التحدث عن كم هائل من الشعراء غير الموثقين بسبب النشر الإلكتروني، وهذا وحده يطرح سؤالاً خطيراً حول كيفية متابعة هذه التجارب نقدياً بالشكل الصحيح!. من ملامح آثار الحرب على سورية أيضاً، انتشار النصوص القصيرة التي تشبه الهايكو الياباني، وقد وصف بعض النقاد تلك الظاهرة بأنها علامة هشاشة وضعف في اللغة والمخيلة، وبعضهم الآخر ربطها بطبيعة الأحداث الجارية على الأرض التي تدفع الإنسان إلى تفريغ شحناته عبر النصوص السريعة التي تشبه السهم.. في المقابل درجت أنواع من النصوص التي سماها أصحابها باليوميات، وهي نصوص توثيقية تصف الواقع اليومي الذي يشاهده الكاتب بشكل أدبي وتحاول أن تضيف إليه شيئاً من الخيال، لكن هذا النوع من النصوص لم ينجُ من الفردانية في النظر إلى الأمور كما أنه لم يشكل ظاهرة يمكن تتبعها نقدياً إذ كانت تلك اليوميات في معظم الحالات عبارة عن مذكرات شخصية.
نعود إلى الفكرة التي طرحناها في المقدمة، وهي نصوص الاستشرافات التي اقتصرت تقريباً على أصحاب التجارب الناضجة، مقابل نصوص الانفعالات السريعة التي تبنتها الأجيال الشابة.. فمن المعروف أن الأدب بقدر ما يتأثر بالأحداث وينفعل بها، فهو في الوقت نفسه يؤثر ويضيء الجوانب المعتمة ويحاول الدفاع عن مجموعة القيم والإنسانيات التي لابد أن تبقى في المجتمع، في حين تكون نصوص الانفعالات المجردة سريعة وارتجالية وغالباً شخصية لا تعني الجميع بل هي عبارة عن معاناة فردية للكاتب نفسه..
تشير النصوص إلى أن الحرب العدوانية ضد سورية ستترك أثرها الكبير على النصوص لكن ذلك لن يظهر بسرعة كما نتخيل، بل ستأخذ الأمور فترة من الزمن حتى تختمر التجارب بشكل كاف فتستطيع أن ترسم طريقها في الأفكار والأساليب بحيث تشكل انعطافات حقيقية على أسلوب الكتابة اللاحق بشكل عام.. في جميع الأحوال فإن التجريب لابد أن يكون متاحاً للجميع حتى تتحول تلك المخاضات إلى ولادات حقيقية مكتملة البنية والملامح، وحتى يحصل ذلك، فلا شك سنحصل على عدد لا يحصى من الروائيين والشعراء والتشكيليين والموسيقيين، لكن الانعطاف سيحدثه نص واحد أو لوحة أو مقطوعة موسيقية!.