توقّع الأحداث.. وبؤس التحليل السياسي

أعود إلى مسألة التّوقع، فالمشكلة هنا ليست في آليات تحقيق النبوءة ولا في استيعاب إشكالية الزمن الموضوعي الممكن رصده، نتساءل في أي مقطع من الزمن نحن، لكي ندرك مسار الأحداث.
لعلّ المفارقة هنا، وهي نفسها التي جعلت كارل بوبر نفسه يعتبر التاريخانية خطأ من أقصاها إلى أقصاها، لأنّنا ننطلق من حيث انتهى التّاريخ.
بتعبير آخر، إنّنا في مقام التّنبّؤ نؤكد أنّ الآن هو المنطلق في ترتيب سلسلة الأسباب والعلل، من دون أن ندرك بأنّ ما نعتبره أرضية انطلاق هو نهاية لمسلسل سابق من الوقائع، لكي نحقق النبوءة يتطلب الأمر سفراً عميقاً في التّاريخ، وهذا في حدّ ذاته يخرجنا من مأزق التّاريخانية إلى معضلة التّورخة.
أخلص للقول: لا نستطيع التنبّؤ بالأحداث، بكل حدث، حيث يتوقّف ذلك على استحضار كل الحوادث التّاريخية من دون اختزال أو تصنيف.
يبقى الحدس الذي تفرضه المعايشة، هو أساس افتراضاتنا تجاه المستقبل، وهذا ليس متاحاً للجميع، وما لم يكن متاحاً للجميع، لا يمكن أن يصبح قاعدة وعلماً قائماً.
يراهن المحلل السياسي على بضعة حقائق لا تتعدّى المدى القريب، وربما قفز إلى وقائع تنتمي إلى المدى السحيق، لكننا أمام هذا الانتقاء الفجّ للأحداث، نرسم ملامح لهواجسنا وتمنّياتنا. لم تعد السياسة وحدها مجالاً لتداول الأساطير، بل التحليل السياسي منذ بات تعبيراً عن أحلام يقظة، أصبح جزءاً من آليات التّآمر على الذّهن البشري.
ماذا يعني التّوقّع في التحليل السياسي؟
تقوم جدوى التحليل السياسي على تحقيق قدر من التوقع بناء على فهم الوقائع السياسية. وقد مكّنت الثورة الميديولوجية لقيام هذا الدّمج بين الصورة والمضمون كما نحى دوبريه، غير أنّ عبادة الصورة، وهو طقس قديم، باتت تحتلّ مكانة العقل، الذي يقوم على الفرز والتمييز لصالح الخيال الذي هو مجال خارج كل معايير تصنيف وتمييز الحقيقة، حتى الإعلام اليوم بات يستقوي على العقل بالحشد الاجتماعي وبسلطة التّلقّي التي تمنح الأهمية للاستهلاك الجماهيري للمعلومة.
من شأن تأريخ التحليل السياسي أن يضعنا أمام حقيقة التناقضات المهولة والانتهاكات المستمرة نتيجة التحولات الجارية على صعيد الواقع، بحيث يظهر فقر التّنبّؤ بالأحداث. وجب إذاً قراءة أشكال التحليل السياسي بوصفها هي نفسها وقائع تاريخية وليس قراءة للوقائع التاريخية.
يصبح الأمر أخطر كلّما سعينا للتنبّؤ بمستقبل الأحداث السياسية، مع أنّ الأمر إذا تجاوز منطق الافتراض، فسيكون ضرباً إمّا من الكهانة أو الذُّهان. فالتنبّؤات التفصيلية غير واردة هنا، نظراً لأنّ كل حدث سياسي يضعنا أمام طرق متشعبة واحتمالات لا حصر لها.
تسعى السياسة للتأثير على المستقبل، لخلق إمكانيات جديدة، لفتح الآفاق، لاختراق حالات الانسداد، وهي عملية معقّدة ومتشعبة، لا يمكن التّنبّؤ بما يجري في كواليس العالم، في حجم المخاتلات والأكاذيب التي تدور في الرؤوس، في عدد ومستويات البدائل الممكنة، إنّه واقع معقّد وآفاق مفتوحة على كل الاحتمالات، والتحليل السياسي هو جزء من فعل تاريخي قد يكون له دور في إذكاء الوعي بالأحداث وقد يصبح سبباً في اضمحلال الوعي نفسه.
حين نتحدّث عن دور الحدس هنا، فليس بديلاً عن الاستقراء الذي هو نفسه مدين للحدس في عملية الاستنتاج، ولا هو خرق لشروط استحضار سائر الوقائع التي تبدو مستحيلة، ولكن، لأنّه قوة قادرة على استحضار روح الحدث، واختصار كل المساحات المستحيلة في ومضة حدس عارمة.
تقتضي تنمية الحدس المؤانسة بالحوادث حدّ الشعور بمعايشتها، حتى يصبح الحادس جزءاً من حركتها، وكذلك استيعاب روح الحدث الآني الذي يمكّن من فهم حوادث الماضي، لأنّ الحدث الآني كما ذكرنا مراراً، يكون متلبّسا بروحه وشروطه حيث يمكن إدراك وجوه التعقيد في الظاهرة الحدثية للتاريخ بناء على تأمّل حوادث الحاضر. وعليه، فالنبوءة تنطلق من الآني ليس كأسباب، بل كعلامات، تساهم في استيعاب روح الحوادث التّاريخية، وعندها تتشكّل ملكة حدس الوقائع بعيداً عن أشكال القياس السطحي للظاهرة، وهذا يتوقّف هو الآخر على تأويل الحدث، أي الربط بين الأول والآن والمآل، فالنبوءة السياسية هي نفسها رهينة لتأويل الحدث، أي إحكام ما تشابه منه بصوارم التّحقّق والاعتبار.
تاريخ الأمم وتجاربها خير معين لقيام تحليل سياسي متين، تاريخ الأمم لا يبدأ من عشريات ولا من سنوات قليلة مضت، التّاريخ نفسه سياق مفتوح على احتمالات القراءة أكثر من المستقبل. ولنا في نظرية العمران الخلدونية وقبلها قواعد التفكير في العمران البشري عند إخوان الصفا ما يجعلنا مدركين لهذه الحقيقة.

ولكن قبل ابن خلدون وإخوان الصفا، لنتأمّل وصية الإمام علي بن أبي طالب لابنه الحسن، وهي درس في فهم التاريخ وروح الوقائع وإمكانية التنبّؤ بناء على حدس الحدث، حيث تضعنا هذه الوصية إزاء حوليات مختلفة، حين يقول: ” أي بنيّ، إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم، وفكرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم، حتى عدت كأحدهم، بل بما انتهى إليّ من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره”.
لسنا أمام عملية قياس ساذجة، لقد كان علي بن أبي طالب رافضاً للقياس حتى في أحكام الشريعة تفادياً لطروء الاحتمال، فكيف يقبل به في استقراء الوقائع التّاريخية؟! ولكنه يتحدّث هنا عن معايشة تتحقق معها ملكة الحدس والسيطرة على سائر الأحداث، وحدها هذه السيطرة تمكّن من حسن التمييز. لا يكفي في معرفة الحدث التاريخي إدراكه كموضوع -فكرة المسافة والحياد- بل لا بدّ من الاندماج في الحدث، واستلهام روحه.
تجلت مظاهر بؤس النبوءة السياسية في العشرية الأخيرة، حيث كان لعملية قلب المفاهيم بما في ذلك مفهوم التّاريخ، تأثير على عودة الغموض إلى الحوادث الواقعة والنوازل الطّارئة. لعلنا في قلب هذه الثورة التواصلية بتنا أمام هروب المعنى سواء أتعلّق الأمر بالماضي أو الحاضر، بل حتى في الحاضر بتنا أمام فوضى الرّأي، لا نتحدّث عن تنوّع الرأي بل عن الرأي نفسه يتكرّر على امتداد هذا التنوع الميديولوجي، تنوع الصورة ووحدة المضمون. أمام هذا الاختزال للتاريخ والحاضر لا يمكن أن نحيط علماً بالمآلات. نحن بالأحرى أمام اختراق التّفاهة للتّاريخ.
كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار