ميزة الحضارة السورية
لعل من نافلة القول إن مناخات الرخاء والسلام، اللذين يولدان الاستقرار الاجتماعي، غالباً ما تشكل بيئة خصبة لازدهار الآداب والفنون والموسيقا، رفقة إلى جانب الارتقاء في طبيعة العلاقات القائمة بين المجتمعات البشرية، وكذا في السلوكيات اليومية التي تفرز صنوفاً متطورة من العادات والتقاليد، لكن من نافلة القول أيضاً إن الأزمات والهزات الاجتماعية غالباً ما تفضي إلى بيئة محفزة لانتعاش بذور الأفكار التي تصبح عادة مهيأة للنمو إذا ما لاحت تباشير السلام، هذا بالإضافة إلى أن هذه الأخيرة، التي نقصد بها الأزمات والهزات الاجتماعية، كثيراً ما تولد في النفس البشرية صلابة تفوق نظيرتها في الحالات العادية، خصوصاً إذا ما كانت هذه الأخيرة تعتد بإرث حضاري يغوص عميقاً في ذاتها الجماعية.
مناسبة هذا الكلام هو الأزمة متعددة الجوانب التي تمر بها بلدنا، والتي كثيراً ما ذهب المحللون إلى إبراز خطورتها على النسيجين المجتمعي والثقافي، ولربما كان في الأمر شيء مما يدعو إليه هؤلاء، ومن دون شك فإن أي محاولة لتناول ما يجري تمثل فعلاً يتعدى في حدوده ملامسة الجمر، بل يتعدى القبض عليه أيضاً، ليصل إلى حدود ابتلاعه، إذ لم يسبق لدولة بهذا الحجم، الجغرافي والبشري، أن تعرضت لكل هذا الكم من الضغوط بشتى صنوفها، ولم يسبق أن تعرض شعب من الشعوب لكل هذه المحاولات التي بدأت في ترهيبه، وذهبت نحو محاولات تجويعه بغية إخضاعه، حيث للفعل هنا، إذا ما تحقق، خصوصية، ومرامي، تختلف كثيراً عنها فيما لو مورست ضد أي شعب آخر من الشعوب.
لم يكن تمرحل الحضارة، والأدوار الحضارية، التي مرت بها سورية كغيرها من التجارب التي مرت بها باقي الشعوب التي كانت تجاربها الحضارية عادة ما تتخذ شكل الموجات المتعاقبة، بمعنى أن تأتي موجة تطغى فيه موجة “الروح” أو “الإيمان”، ثم تليها موجة أخرى تطغى عليها “المادة” أو “العقل”، وهكذا تتعاقب تلك الموجات فيما بينها محدثة انقطاعات ترخي بظلالها على تلك التجارب، ومثل هذا لا نراه في تاريخ الحضارة السورية التي لم تعرف هذا الشكل من الموجات، بل نراها تتخذ شكل الحضارة المتكاملة والجامعة لكل العناصر القادرة على جعل شعبها في حالة نهوض دائمة، عبر التكامل والتجميع لعنصري المادة والروح في آن واحد، ولربما كان ذلك هو السر الذي أدى إلى ثباث الهوية الحضارية للشعب السوري التي لم تغب عنه على امتداد آلاف السنين برغم كل الويلات التي ألمت به، وبرغم كل الغزوات التي تعرض لها.
نحن هنا لا نريد أن نسوق لفكرة تقول أن ثمة “إيجابية” يمكن أن تستولدها حرب طاحنة ما انفكت تدور رحاها على امتداد عشر سنوات، لكننا نريد القول إن المناخات التي تفرضها تلك الحرب من شأنها أن تعزز في النفس البشرية إرادة التميز والكفاح من أجل البقاء واستمرارية الدور، والفعلان السابقان كفيلان بابتلاع موات الأشياء من الذبول، وكفيلان أيضاً بالتعجيل في نمو الأفكار والأساليب الجديدة التي تمكن عادة من مواكبة المتغيرات.
وقد يكون من المفيد هنا أن نذكر مثالاً تاريخياً بعيداً لكنه ذو دلالات مهمة، وهو لا يختلف كثيراً في معطياته عما نمر به اليوم، بل من الممكن القول إن تلك المعطيات تكاد تتطابق مع الحالة الراهنة للأزمة التي تعيشها المنطقة وفي قلبها سورية، ففي معركة أكتيوم 31 ق.م انتصرت روما على دول حوض البحر الأبيض المتوسط التي كانت سورية تمثل فيها عمقها ومركز قوتها، لكن تلك الدول استطاعت النهوض سريعاً من كبوتها تلك، وفي غضون عشر سنوات استعادت قدرتها على الإقلاع من جديد رافعة سقف نهوضها لدرجات تفوق تلك التي كانت عليها ما قبل هزيمة أكتيوم.
ما نريد قوله هو أن الحرب المستمرة منذ ما يزيد على عقد من الزمن هي في مطلق الأحوال تمثل صراعاً بين إرادتين، وهي بلا شك ذات أثمان باهظة، لكن النصر فيها سيرتسم أولاً في قلوب السوريين المؤمنين بسورية، فيما درجته، أي درجة ذلك النصر، ستتوقف على مدى القدرة على الاستفادة مما جرى، حيث لاستخلاص النتائج هنا دور فك الشيفرة لملامح سورية الجديدة الناهضة كما لم تكن من ذي قبل.