بالحروف وليس حروفياً.. الفنان التشكيلي بشير يُنوّع في تلوين لوحته

على حواف التجريد، ولكنه ليس فناناً يُقدّم أعمالاً تجريدية صرفة، وعلى حواف التشخيص، ورغم ذلك فإنّ لوحاته أبعد ما تكون عن الاتجاه الواقعي، بل وتخلو من التجسيد بمعنى التجسيد، وهو كذلك ليس فناناً حروفياً، ومع ذلك لوحته لا تخلو من الحروف، في لوحته أيضاً إحساس عالٍ بالزخرفية والتزيينية، ومع ذلك، لا تُصنف ضمن الأعمال الزخرفية، كما أن قوة الخط في اللوحة؛ كثيراً ما تُعطي حالة هندسية من نوعٍ ما، ومع ذلك لا تذهب اللوحة لديه باتجاه التكعيبية على سبيل المثال.. على هذه الطريقة من المُخاتلة؛ يفتح الفنان التشكلي بشير بشير في كلّ معرضٍ يُقيمه أبواب هذه المواربة الفنية، بحيث يمسك مختلف خطوط وخيوط الجماليات الفنية من أطرافها كلها.. و هو بهذه المواربة الفنية؛ استطاع أن يؤسس لأسلوبية فارقت إلى حدٍّ بعيد المشهد التشكيلي السوري، أو على الأقل امتلكت خصوصيتها الفنية التي لا تُشبه غير نفسها..
مناسبة هذا التمهيد لتجربة الفنان بشير بشير؛ معرضه الذي يُقيمه هذه الأيام في صالة الشعب بدمشق، وخلاله، يفرد الفنان المساحات الواسعة بكرم لوني قلّ مثيله، وبشير حقيقةً؛ هو من الفنانين الذين يمدّون بأبعاد اللوحة إلى ما استطاعت إليه سبيلا من الاتساع، حتى تكاد اللوحة لديه أن تُمسي جدارية، أو قد تأخذ بمساحة الجدار كُلها.. وأمام هذا الفضاء؛ تصبح اللوحة – معرضاً، بمعنى من ميزات اللوحة عند هذا الفنان (اللوحة – المعرض)، فهو لا يكتفي بتكوين واحد في اللوحة، بل يُشغل اللوحة بتكاوين بصرية مختلفة، من دون خشية التجاورات اللونية، ومن دون خشية وحشية ألوانها أيضاً بتلك الصراحة اللونية التي يعتمدها، بل كثيراً ما يقوم بالشغل الفني على وجهي اللوحة، ولوحته «البرفان» التي تأخذ كامل واجهة صالة الشعب (180\275سم) مثال لوني واسع على هذه «الدبل فيس» من الأعمال التشكيلية من العمارة اللونية..
في معرض صالة الشعب؛ يُرفق بشير، ومضات أدبية إلى جانب اللوحة، أشبه بأسماء لـ (اللوحات)، أو محاولة للتعريف بها، وربما لإغنائها أكثر بنص أدبي، ورغم أن النص هنا يبدو أشبة بكائن يصعد جبلاً، نظراً لأمداء المساحات اللونية التي يعتمدها الفنان هنا، وتكثيف النص إلى درجة أن يصبح كتحية، ومع ذلك شكّل النص تكثيفاً لشاعرية، وشعرية اللوحة، أعطاها إغناء ما مُتمماً للحالة الحروفية التي يعتمدها داخل إطار اللوحة، والتي كثيراً ما تظهر في لوحة الفنان بهذه الغنائية اللونية الباسقة من مختلف الألوان..
وهنا ثمة ميزة أخرى في هذه التجربة، وهي صداقة الفنان لمختلف الألوان، حتى يُخيّل إليك إن كل الألوان تحضر دفعةً واحدة في معرض بشير بشير، فليس من لون لا تربطه علاقة، وحالة ما أثيرية معه، ومن ثم ليس من لون يسود – على سبيل المثال – حتى يُشكّل ملمحاً في التجربة، واللون الذي يسود ربما؛ في لوحة واحدة فقط، ولا يمتد لأكثر من ذلك، والميزة هنا، أو الملمح اللوني في تجربة بشير بشير، إن كل لون يُقيم له الفنان الاحتفالية الخاصة به وحده، أي يجعله ظاهراً في عملٍ واحد في أغلب الأحيان، وفي المعرض العام؛ نجده يحتفي بمختلف الألوان على مدى اللوحات، وفي مسألة اللون؛ نجد الفنان جريئاً في طرحه اللوني، وذلك من خلال صراحة اللون، وحتى في تجاور ما يُمكن أن نطلق عليه (التّضاد) اللوني.
غير أنّ الملمح الأبرز في شغل هذا الفنان الذي خطّ لنفسه أسلوبيته الخاصة به، حتى أمسينا نعرف عمله التشكيلي من مسافة؛ هي التكوينات الحروفية التي هي أقرب إلى الغرافيك، وهي التي لا تخلو منها لوحة فنية، غير أنّ حروفية الفنان بشير لا تجعل من لوحته لوحة حروفية، وإنما هي حروفية هندسية، غايتها جمالية بصرية صرفة، هدفها مد المساحات البصرية، أو على الأقل كسر رتم، أو إيقاع ما، في هذا المد اللوني، وذلك باعتماده تعبيرية خاصة ضمن تفاصيل تصويرية متعددة للمدينة الزرقاء الحلم.. المدينة بكل نوافذها وشرفات بيوتها، حدائقها، شوارعها، وأزقتّها.. ذلك أن بشير، وعلى مدى هذه التفاصيل التصويرية، يتجنب التشخيص، وهي ميزة أخرى، أو قل ملمحاً آخر في عمارته اللونية، ولكن هذا التجنب أيضاً أقرب إلى المواربة، وإن خلت لوحته من التجسيد الإنساني، لكنه يُبقي على ما يدل على هذا «الإنسان» من خلال فعله في المكان: نوافذ، شرفات، حديقة، وحتى التكوينات الحروفية..

وهنا أسأل الفنان بشير: ضمن هذا الأسلوب إلى أي حد يمكن للفنان أن يضيف دائماً، ويُشكّل انعطافات جديدة؟؟ فيُجيب: كل الإشعارات والدلالات في تجربتي؛ هي لحظة تغير غير انعطافي لتجاربي السابقة، عمّقت من خلالها لغة الألوان المشاكسة للخطوط غير المرتجلة، لذا أرى أن الأسلوب؛ هو صوت نتاج ما أفكر به لجملة من العوالم التي استحوذها لصالح العمل.. وهنا أسأله: عن انعطافات التجربة؛ متى وصلت إلى ماهي عليه؟؛ فيقول: استطعت أن أنفي لغة الإرتجال في المساحات الملونة الهندسية والنباتية، واعتمد على انفعال اللحظة التي تجاور المكان المعنى بثقافته الشرقية، وهذا ما جاء في تطريز الكم الهائل من عناصر النبات في العمل كدعوة للحياة والطبيعة..
وأمام هذه الحروفية التي يسعى إليها؛ أسأله: كم تقترب تجربة الفنان بشير من تجربة الفنان الحروفي السوري محمد غنوم، وكم تبتعد وكم تتقاطع؟ فيذكر: تجربتي بعيدة كل البعد عن تجربة الفنان محمد غنوم، ولاسيما في المقروء من الحروف، و في التكوين، فتجربتي تأتي بهيامات الحرف غير المقروء، وليست الغاية من الحرف القراءة، أو الحصول على مقولة ما، أضف إلى ذلك اختلاف الخطوط، والمد المساحي اللوني والموضوعي..
لكن تجريد الحرف إلى هذه الدرجة؛ إلى أي غاية تستهدف من وراء ذلك؟ يُجيب: الكم الحروفي والمساحات الكتابية بحروف تملأ المساحة؛ ليست قيمة لونية بالحرف، وتلك الحشود الحروفية؛ هي لغة المطلب الذي لا أريد توضيحه، إلا إذا كنت أريد أن أكتب قصة، أو سيناريوهاً، وهذه ليست مفاعيلي، أو ما أهدف إليه.. من جهتي أرتب المساحة بمقياس التعاطي بلغة جديدة غير مقلدة، أو موضوعة سابقاً، لأن الحرف عندي، حركة إنسان وقول فعل لمد أهمية اللحظة الفنية..
لكنك تستخدم الحرف، وتكثر من استخداماته، ومع ذلك أنت لست فناناً حروفياً هل من تفسير؟ يختم: ببساطة أنا لا أجيد الخط، ولا الحرف، ولا قواعدهما، إنما أحاول إدخال الخط والحرف على سطح اللوحة، حيث يُشكّل حالة تعبيرية منسجمة مع اللون والتكوين..

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار