«حريقٌ وحرقة» ومرثية للأخضر .. في انعطافة بديع جحجاح الشجرية
أيا شجر الزيتون لماذا تشهق؟!
وكانت تُريد أن تدعو له «برداً وسلاماً»؛
تلك المرأة التي كانت تنوي أن تنام تحت أغصان السلام؟!!
لكنها النار
التي أحرقت القلبين معاً؛
حينها بكت على ما قد أصبح رماداً،
وقد تكورت الأرضُ من تحتهم على قلبٍ من فحم..
بهذه الحالة التراجيدية؛ يُقدّم الفنان التشكيلي بديع جحجاح انعطافته الفنية، المُفارقة إلى حدٍّ بعيد على ما كان قد اشتغل عليه لأكثر من عقدٍ من السنين، ودافعه في ذلك حالة «الإمحاء» للوجه الأخضر لسورية، عندما أهلكت نار الحقد وعلى مدى موسمين شجريين مُتتاليين؛ السفوح الخضراء، والقمم الشجرية في الساحل والداخل السوريين، وذلك في تآزرٍ حاقد مع ما تقوم به (جيوش) النار والاحتلال وتنظيمات الإرهاب على أطراف سورية، وفي جهاتها كلها..
تلك النار التي أوقدها حقدٌ مُقابل أقلَّ من (ثلاثين من الفضة)، ومن ثم كان خانوا أخضر الشجر قبل صياح الديك.. تلك التراجيديا جُعلت من زيتون وصنوبر وليمون وبرتقال ولوز وجوز ودراق سورية، والتي كانت تقول:
(الغابةُ؛
حطبٌ مؤجل
لحريقٍ غادر.)
«حريق وحرقة»؛ هكذا اقترح بديع جحجاح على مُفارقته التشكيلية المعرض الذي يُقيمه هذه الأيام في صالة (ألف نون) بدمشق، وكان المُتلقي لشغل جحجاح قد اعتاد عليه يُلاحق «الدرويش» في دورانه الصوفي الطويل في مسيرة روحانية للوصول إلى المعنى..
وهنا وإن جاء شغل جحجاح، من خلال تحريض النار التي جعلته يُقدم هذه الملحمة النارية لأشجار سورية المُحترقة، غير أنه بقي على حالته البعيدة الأثيرة على نفسه؛ (الدوران)، ليس في حالات التكوين التي شكلها ما بين “الأورانج” والأصفر والأحمر والرمادي، ومن ثمّ السواد التام الذي يُبقي على مساحةٍ خضراء ناجية تتحدى؛ بل حتى في ترتيب اللوحات وتعليقها في الصالة، والتي جاءت كمن يسرد حكايةً مصورة في مشاهد دورانية، كلّ مشهدٍ يُتمم ما سبقه..
فأول ما يبدأ جحجاح أعماله في هذا المعرض بلوحةٍ أقرب في تكويناتها إلى التجريد، نار غامضة مُخاتلة، وساحرة في ألوانها النارية من تدرجات “الأورانج” والأصفر، وهنا لابدّ للمتلقي أن يُخمّن كثيراً على ما قد تنوي عليه هذه السحرية اللونية، ثم يكون الجواب بالانتقال إلى تكوينات أخرى بما يُفسر نيات النار، وهي «الإمحاء» عندما تتسع مساحة الرمادي، ثمّ لتصل التراجيديا إلى ذروتها في الصراع الذي ينشأ ما بين النار القاتلة لمساحات الأخضر، والدرويش الذي يظهر فجأةً؛ وهو يدور هذه المرة بغير اتجاه، وبعيون وملامح لم نرها له خلال العشر سنوات من البحث عن الجوهر، وحالة التواصل والخصب التي يُجسرها المولوي ما بين السماء والأرض، ومن ثم لتظهر الغربان في تكاملها مع الرمادي والفحم الأسود.. وكان ظهور الدرويش بين النار التي تحرق تنويعات الشجر لأكثر من غاية جمالية، وبحثية، أو فكرية، فقبل أن نصل للوحة الدرويش؛ ثمة شجرة تصير في أقصى توهجها الناري، وكأنها الدرويش نفسه في احتراقه الأخير، ثم ليظهر الدرويش كصلة أسلوبية بين الانعطافة الجديدة، و التنويعات المولوية التي اشتغل عليها جحجاح لسنواتٍ طويلة..
وهنا نُلفت الانتباه إلى أن الشغل على التكوينات الشجرية، ليس جديداً كل الجدة في شغل الفنان التشكيلي بديع جحجاح؛ فطالما كانت الشجرة تُشكّل له استراحةً ما، يُنوّع عليها في شغله البحثي والجمالي على المولوية، حيث كان يلجأ إلى فيئها كلّ حينٍ من زيتون أو سنديان، حتى كأن الدرويش – شجرة؛ كانت تُحرضه بثمرها أو بأخضرها، أو ربما بظلها كانعطافة جديدة لدرج الدوران.. وفي حوارٍ سابق معه ذكر لي مرة: عندما أريد الاستراحة من الدرويش، أو عندما يركن هذا الدرويش في داخلي إلى الصمت والضباب؛ يصبحُ التجلي للدوران شجيرات متناثرة في بستان الحياة، فتارة يُخبرنا السنديان حكايا الجدات، كما يبوح الزيتون بقصص السلام والمجد، ويخفق قلب الصفصاف عندما يرى العشاق عند ضفة النهر، وهنا تحضرني الآية الكريمة التي تقول « كلمةٌ طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت، وفرعها في السماء، تؤتى أوكلها كل حين بإذن ربها..».
غير أن التشكيل اليوم؛ كان أن جاء حارقاً، ومُختلفاً لما كانت النية في الانعطافة نحوه، وبدل درج الدوران الأخضر، كان هذا الدوران ما بين التوهج والرماد، حتى الدرويش نفسه الذي ينبجسُ من بين النيران، كنبع يتدفق من الجبال؛ بدا رمادياً هو الآخر، خاشعاً يتوسل مطراً وسلاماً يُطفئُ الحريق.. وكأنه يُردد:
يُخاصرني هذا الشتاء؛
يكادُ يسرقُ
هذا البردُ
قدميَّ الحافيتين،
وأنا
أرتّلُّ مع الغابة
أنينها في الموقد،
وحشرجتها الطويلة
في سردِ رواية اللهب.
يقول جحجاح: «الحرائق التي التهمت زيتون الجبال، اشتعلت في روحي، عصفت بطمأنينتي، ذلك أنني لم أتخيّل يوماً، أن أعبر تلك الجبال من دون أن أختزن دهشة الأخضر.. فجأة غرقت بالرماد ورائحة الموت، فللأشجار روحها أيضاً، وقد تهاوت أعشاش الطيور في أعاليها، ووحدها الغربان كانت تنعق في هذه المذبحة..»
ويُضيف: كنت قبل أشهر قد بدأت مشروعاً في (تأريخ الشجرة) في دورانها الأبدي عبر تعاقب الفصول، وطبقات الخصوبة، لأجد نفسي فجأة محاصراً باللهب.. هكذا اندحر الأخضر لمصلحة الأحمر، لعله دم الأشجار لحظة النزيف، فكان عليّ أن أرسم مرثية الزيتون والصنوبر والقمح في حمّى لونية سعيت خلالها إلى إطفاء حريقي الشخصي أولاً، فأنا ابن تلك الجبال، وحتى لا أشعر بالحصار؛ استنجدتُ بدرويشي الذي طالما رافقني في لحظات العتمة بنورانيته وطهرانيته كي يسهم بإطفاء الحريق من الأحمر الناري إلى الرمادي، رحلة انتهت بشعلة صغيرة، ربما هي جناح طائر الفينيق وهو ينهض من تحت الرماد..
في هذه الانعطافة، والتي كما ذكر جحجاح نفسه؛ إنها كانت مرثية لأشجار الزيتون والسنديان والقمح؛ ورغم الحالة الفجائعية لهذه المرثية، غير أنه لم ينسَ الجانب الجمالي في العمل الإبداعي، بمعنى أنه لم يُضحِّ بالجانب البصري الذي يُقدّم متعة ما، للمتلقي، فقد بقي الفنان هنا أميناً لجمالياته البصرية التي هي غاية كل عمل تشكيلي في النهاية.. وهذه توليفة من المتناقضات؛ ومراهنة على كيفية تقديم القبح، أو تقديم الألم والوجع جميلاً، أو ما يُطلق عليه «الحزن النبيل»، و«جماليات القبح»، فالأشجار أبجديّاتٌ أيضاً، كما كان يقول الإغريق، و«الأشجار أشعار تكتبها الأرض في السماء، ونحن نقطعها ونحيلها ورقاً نضمنه حماقتنا» كما كان يُردد جبران خليل جبران، وهنا استطاع جحجاح أن يُقدّم (مناحة جمالية)، بهذه التكاوين النارية بين جماليات ألوان النار، وقتامة الرماد، والأسود، والأخضر الذي يظهر رغم احتراقه في تنويعات لا يُمكن أن يُقدمها سوى فنان عاش الاحتراق من كلّ جوانياته.