هل اعتدى فرحان بلبل على «رسائل البلغاء» بعد اعتدائه على «رسالة الغفران» ..؟!
استنكر البعض ما أقدم عليه المسرحي فرحان بلبل من إعادة صياغة لـ «رسالة الغفران» التي أصدرها عن دار ممدوح عدوان منذ سنتين، وكنا زعمنا في مقالة سابقة خصصنا بها الإصدار، أن الأعم الأغلب من الذين اعترضوا أو استنكروا تلك الصياغة لم يطّلعوا عليها، فهم لو فعلوا وقارنوا بينها وبين النسخة التي حققتها د.عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) لقدّروا جهده، إذ مضى يقول في مقدمته: «استبدلت الكلمات الغريبة البائدة بألفاظ عادية يفهمها القارئ العادي، وهذا الاستبدالُ تم مع الحرص الشديد في المحافظة على نَسَقِ تركيبِ الجملة عند المعري وعلى تشبيهاته الرائعة التي تنبئ عن مخيلة واسعة، وبهذه الطريقة التي اتَّبعناها تجلَّى جمالُ أسلوبه الذي يتفرَّدُ به في عصره ويلتزم فيه بما هو متعارَفٌ عليه من أصول التأليف في عصره وبين أقرانه، فكانت إعادة الصياغة لها أشبهَ بجلاء الحِلْيَة الذهبية المُغْبَرَّةِ ليعود إليها بريقها».
لكن الإشارة التي ابتدأنا بها لا يعني أن إعادة صياغة «بلبل» لرسالة الغفران أنها لم تقابل بالترحيب من قبل بعض الأدباء ومحبي التراث، ولذلك نزعم أن كتابه الجديد «من رسائل البلغاء» الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب، وهو صياغة حديثة لنصوص قديمة في الأخلاق والسياسة والحرب والبلاغة، سيلقى ردود فعل تنقسم أيضاً بين مؤيد ومستنكر.
مرغوبات القارئ
وكما كان الدافع في إعادة صياغة «رسالة الغفران» يتجسد في حرص بلبل على عدم قطع صلة القارئ المعاصر لكنز من كنوز تراثنا، وليظل هذا الكنز حاضراً، نجده يقول عن كتابه الجديد: هل نسمح أن يغيب عنا تراثنا إلاّ عند قلة من الدارسين المتقوقعين على ذواتهم، على حين كان هذا التراث ملء أسماع القراء العرب وأبصارهم طوال قرون تنتهي على عتبات عدة عقود من السنين؟ فإذا رفضنا أن نسمح بذلك، فكيف نستطيع أن نجعل هذا التراث من مرغوبات القارئ العربي اليوم من دون إكراه عليه، بل بدفعه إلى التلهف لقراءته في الوقت الذي يزداد النافرون منه والكارهون له؟ وقد أجاب بلبل عن سؤاله بأن ذلك قد يكون بإعادة صياغة ما يُستطاع من هذا التراث.
والمسرحي بلبل يشبّه جهده بجهد عودة الموسيقيين البارعين إلى القطع الموسيقية الفاتنة والأغاني التي يجب ألاّ ننساها بتوزيع جديد يحافظ على جملها اللحنية من دون تغيير، ويعطيها لبوساً جديداً يجعل مستمعيها أكثر تلذذاً بها، وبذلك نحافظ على تواصل الأجيال الصاعدة مع موسيقانا وغنائنا موضوعين إلى جانب ما يُستجد من أساليب الموسيقا والغناء، وقد تضمن الكتاب: رسالة الصحابة، الأدب الصغير، الأدب الكبير أو الدُّرَّة اليتيمة، رسالة عبد الحميد الكاتب في نصيحة وليِّ العهد، الرسالة العذراء في موازين البلاغة وأدوات الكتابة، قانون البلاغة في نقد الأدب والشعر.
تبويب وتقسيم
وعن أسباب اختياره لتلك الرسائل التي أعاد صياغتها يقول بلبل: فـ «رسالة الصحابة» هي نموذج رفيع عن إدارة الدول وأعمالها في غابر الأزمان وحاضرها، أمّا « الأدب الصغير» و « الأدب الكبير» فلم أجد في كل ما قرأته من صنوف الأدب والشعر والرواية والفلسفات ما يوازي تعمُّقَهما في نفس الإنسان وتوغلاً في مداخيلها وأهوائها، وأمّا اختيارنا لـ « الرسالة العذراء» و «قانون البلاغة» فلأنهما تدخلان بالكاتب المعاصر في دهاليز الفصاحة والبيان، وعن تعامله مع الرسائل التي اختارها بلبل كان على أسلوبين: الأول وهو إعادة صياغة مع المحافظة على نصاعة الأساليب، وتم هذا في جميع الرسائل المُختارة. ويضاف إلى هذا أن طريقة القدماء في كتابة رسائلهم أنهم يسردونها سرداً واحداً متواصلاً، فينقلون من نقطة إلى نقطة دون أن يُنبّهوا إلى انتقالهم هذا، وبذلك يزداد ضياع قارئهم المعاصر المتعوِّدِ التبويب والتقسيم اللذين يجعلانه يتابع ما يقرأ بسلاسة وترتيب، وهذا ما دفعه إلى وضع العناوين الفرعية التي تدخل هذه الرسائل في التبويب والتقسيم، والأسلوب الثاني لتعامله مع الرسائل هو ما فعله مع نَصَّي «الرسالة العذراء» و«قانون البلاغة»، وهما نصان مهمان في البلاغة وقواعدها، وفي أساليب الفصاحة، لكن قد مرَّ ما يقرب من ألف عام أو أكثر على كتابتهما، ومع إنهما حافظتا على نصاعة أفكارهما، وأهمية ما قدماه للأديب المعاصر، لكن إشاراتِهما وإحالاتِهما الشعرية تقف حائلاً دون متابعة القارئ لهما. ولهذا يقول بلبل: قمت بما يشبه (تحقيق الآثار القديمة) الذي قام به عددٌ كبير من المحققين العلماء، فإذا كان محمد كرد علي قد نقل هاتين الرسالتين من المخطوطات إلى الصفحات المطبوعة، فقد أكملت عمله بتحقيقهما، فأرجعت الشواهد الشعرية إلى دواوينها، وقدمت لمحة عن كل شاعر، وذكرت متى صدر ديوانه، ومن حققه .والأطرف أن هاتين الرسالتين كانتا بالإملاء، وبالإملاء قد يخطئ المُملي ببيت الشعر أو ينسبه إلى غير صاحبه أو يهمل ذكره فيقول (قال الشاعر) أو (قال الآخر)، وقد صححت ذلك كله حتى لم يعد هناك قولٌ مُستغلق على القارئ، وصار بإمكانه أن يقرأ هاتين الرسالتين بالبساطة نفسها التي يقرأ بها بقية الرسائل.
الفرح بالاعتداء
ونختتم بالقول الجريء لفرحان بلبل: لن نهتم بتهمة «الاعتداء» على الآثار إنْ أُلْصِقَت بنا، بل نعترف بها فرحين، ونُصِرُّ عليها مؤكدين، ونعدُّ ما فعلناه خدمة للغة العربية ولآثارها النفيسة. ولاسيما أننا لا نطالب بجعل النص الذي قدمناه بديلاً عن النص الأصلي، وما فعلناه في هذه الرسائل الفذة ليس إلاّ « تنويراً» بها، أو «تقريباً» لها حتى تعود إلى الحياة بين أيدي الاختصاصيين في اللغة وإلى القراء العاديين، فهؤلاء وهؤلاء لن يكونوا بحاجة إلى إشغال أنفسهم ووقتهم بالعودة إلى شروح الألفاظ ومعالجة المعاني وتدويرها حتى يصلوا إليها، فوقتهم ثمين في عصر الركض وراء الزمن حتى لا يفلتَ منهم، لأن الوقت كالسيف، فكأني أحوّل الوجبة الدسمة العسيرة على الهضم إلى طعام بيتي نافع مفيد وهو غير الوجبة السريعة.