هُراء «الترييف».. وحكاية المدينة والرواية الضحلتين!

ذات حينٍ في زمنٍ بعيدٍ جداً، يعود لأكثر من مئتي سنة قبل الإسلام في الجزيرة العربية، حاول «كُليب» وائل بن ربيعة، زعيم إحدى القبائل العربية أن يبدأ بما يُشبه الاستقرار، وبما يؤدي لإقامة «وطنٍ ما» حتى لو كان مداه مقدار أن يسمع صوت نباح جروه الصغير، وكانت غايته في ذلك، ربما أن يصل يوماً لوطن كالذي أنشأه المجاورون له في الشام والرافدين، وحتى في بلاد اليمن القريبة!‌‏
صحارى وأرياف‌‏
غير أن هذا الحلم الصغير ما كاد يجد خُطاه على أرض الواقع حتى قام «بدويٌّ» آخر اعتاد الترحال، لا تشدّه أوطان أو حمى، فكان أن قتل جساس بن مرة ابن عمه وصهره كُليباً صاحب أول مشروع لوطن مستقر في أرض الجزيرة العربية، ومن يومها بقي حلم إقامة «المدينة العربية» عصيّاً على التحقيق، ذلك أن «عقلية البدوي» الثأرية؛ ضد الأوطان بقيت هي السائدة، وتعززت مع «غزو البدو» سواء أكانوا بدواً عرباً أم مغولاً وعثمانيين وتتاراً، وغيرهم لكل ما أطلق عليه فيما بعد «العالم العربي»، حيث بقيت المدينة في هذه الأماكن محكومة بالعقلية البدوية!‌‏
مناسبة هذه المادة ما قرأته لأحد الكتّاب السوريين، الذي يؤكد أنّ الرواية، تُصنف على أنها «فنّ مديني»، ويرى ثمة مشكلة في كتّاب الرواية اليوم في «أنهم يُريّفون الرواية»، ومن ثمّ هم يريّفون المدينة، ويقصد بذلك محدودية شبكة العلاقات الموجودة في الرواية، ما يجعل الفضاء الروائي أقرب إلى البساطة الريفيّة منه إلى التنوّع والغنى والكثافة المدينية!‌‏
فن الأرياف‌‏
ذلك الكاتب الذي تميز ذات حين بكتابة القصيدة، ثم ذهب صوب الرواية – ربما ليتخلص من عقدة الريفية لديه – ومن ثم كان الفشل في كتابتها سواء رواية مدينية أو ريفية – إن جاز التقسيم – رغم عبثية المسألة, أي إن ذلك الكاتب ينطلق من «يقين» لديه بأن ثمة «مدينة عربية»؛ فهو يؤكد المثال عند المقاربة بين القاهرة وحلب، إنه قيّض للأولى روائيٌّ بقامة نجيب محفوظ كتب «مدينتها» روائياً، أما الأعمال التي كُتبت عن حلب – حسب رأيه – فقد وجدها أنها شكلت ما يُشبه سباقاً في الرواية السورية؛ الأمر الذي أفقر المدينة بدلاً من استنباط آفاق أرحب لها، وذلك باختزالها إلى فكرة الحي الشعبي!‌‏
من جهتي، إن ما كتبه نجيب محفوظ عن مدينة القاهرة، لا يعدو كونه حكايات عن «الحي الشعبي» الذي هو المُعادل للضيعة بكل بساطتها وعفويتها وتقاليدها، ومعرفة أهل الحي جميعاً لبعضهم بعضاً، فيما بقيت الأحياء التي يُطلق عليها (الراقية) أشبه بالفنادق المُغلقة، والتي تخلو من الغواية التراجيدية.. كما أعتقد أن التسليم اليقيني بأنّ الرواية «فنٌّ مديني»، فيه الكثير من التضليل، ويزيد الأمر ضلالاً وتضليلاً عندما يُسلم المرء بجود «المدينة» في العالم العربي، فلا الرواية هي فنٌّ مديني، والبرهان على ذلك أنّ الرواية الأولى بالشكل الذي نعرفه في العالم العربي، وكما يجزم المؤصّلون للفن الروائي؛ كانت «رواية ريفيّة»، وأقصد بذلك ما اتفق عليه الكثير من النقاد على أنّ رواية «زينب» للمصري محمد حسنين هيكل، التي تأخذ من أجواء الريف المصري فضاء سردياً لبنيتها الروائية، وحتى إن سلمنا مع مؤصّلين آخرين يرون أن مُبتدأ الرواية في العالم العربي كان قد نشأ في مهد ثلاث مدن عربية هي على التوالي تاريخياً: «وي لست بافرنجي» في بيروت، و«غابة الحق» في حلب، و«زينب» في القاهرة، وثلاثتها كانت أواخر القرن التاسع عشر، غير أنه رغم كل هذه القدامة في السرد الروائي، ورغم كل هذا الاحتضان المديني لها، فإنّ ناقداً له باعه الطويل في متابعة الرواية العربية كالناقد صلاح صالح مثلاً، الذي اقتفى أثر المدينة في أكثر من مئة رواية عربية، لم يجد غير تلك «المدينة الضحلة» كما وسم كتابه الصادر عن وزارة الثقافة السورية، وبعنوان فرعي آخر «تثريب المدينة في الرواية العربية».. فهل كان هذا «الفقر الجدلي والانجدالي» بين الرواية وحاضنتها المدينة يعود لثمة عيبٍ أو لبسٍ، في الرواية، أم في حاضن الرواية، أم في كليهما معاً؟
المدينة الضحلة

وقبل أن نُجيب عن تساؤل كهذا لنمضِ قليلاً في كتاب الناقد صلاح صالح السابق الذكر؛ ولاسيما من العنوان اللافت للكتاب (المدينة الضحلة) ثم في العنوان الفرعي (تثريب المدينة في الرواية العربية)، أي إن النتائج التي نُشير إليها نكاد نلمحها في العنوان، فمنذ البداية نتلمس (مدينة ضحلة)، وهي إما ضيعة حاولت أن تتمدن، وغالباً هي فشلت في التوصل إلى ذلك، أو واحة صارت محطة قوافل، فكانت تجمعاً سكانياً كبيراً فشل هو الآخر في إقامة، أو إنشاء مدينة، أو كما يقول الروس: «خرجنا من الريف، ولم نصل المدينة».. فالمدن العربية توسم بأنها مدن زراعية، لاسيما على أساس صلاتها الوظيفية بالقرى، فهي سوق لتصريف المنتجات الزراعية، وبيع السلع التي يحتاجها الريفيون، وهو وسم – على ما يراه الباحث – يرمي, من جملة ما يرمي إليه, إلى تقليص الصفة المدينية لهذه المدن، وخاصة في سياق مقارنتها بمدن الغرب التي صنعت ازدهارها الصناعات الجبارة والمصارف.‌‏
ومن ثم كان السرد الروائي في هذا المجال هو سرد لنواقصها في أغلب الأحيان، استطاعت سردها من غير أن تكون قد تعمّدت سرد المدينة على هذا المستوى، وذلك عبر اعتمادها بؤرياً للسرد، وبالتأكيد من غير أن نعدم وجود روايات عربية متميزة تشي عناوينها بأنها تجعل سرد المدينة مقولتها، أو أطروحتها المركزية كما في (أبواب المدينة) لإلياس خوري، و(حارس المدينة الضائعة) لإبراهيم جبرا، و(خماسية مدن الملح) لعبد الرحمن منيف.‏
طربوش وبرنيطة‌‏
الأمر الآخر، أنه لم يكن يوماً ثمة مدينة عربية بالمعنى المديني الحقيقي للمدينة، أو لم تنفصل يوماً عن الريف، حتى لم تنفصل عن الصحراء كذلك، ومن ثم فالمدن في العالم العربي اليوم، لاتزال ضمن أفقين لا ثالث لهما، إما حارة شعبية، أو قرية، أو واحة «تمدنت» أو حاولت أن تتمدن، لكنها كانت في كل أحوالها كمن قذف بالطربوش والكوفية والعقال بعيداً، ولكنه لم يُحسن «لبس البرنيطة»، أي هي مجتمعات فقدت فضائل الريف والصحراء، ولم تصل لفضائل المدينة, الأمر الآخر أن جل كُتّاب الرواية، ليس في العالم العربي فحسب، بل في مختلف مناطق العالم كله تقريباً، كانوا من ذوي الأصول الريفيّة، ومعظم فضاءات الرواية كانت ريفيّة وقرويّة، وحتى صحراوية، ولم تتخصص كفن مديني، ربما من هنا نُفسر ما توصل إليه الناقد صالح في كتابه السالف الذكر، وهو: ما سعى لكشفه في كتابه الذي أتى أشبه بالإحاطة ببحثه الأقرب إلى الشغل الموسوعي، حيث قدم الوافر من التفاصيل، وحتى تفاصيل التفاصيل في هذا المجال، ليصل إلى نتائج لا يصرّح بها، غير أن متلقي الكتاب يتلمسها بكل وضوح.‌‏
من هنا، فإنّ الادعاء بأنّ ثمة من «ريّف» الرواية، ومن ثمّ من «ريّف» المدينة، هو «يقين» أشبه بـ«اليقين الأصولي» الذي يعتمد الغيب والماضي إثباتاً لصحة يقينه، الأمر الذي يمنع بذلك محاججته أو مجادلته مُقصياً بكَ، أو مُكفراً لكَ، ولا يترك أمامك من خيار إلا أن ترد له بالإقصاء ذاته والتكفير نفسه!‌‏
هل لأنّ الأمر كذلك؛ لم تصل الرواية في العالم العربي – رغم كل ترديد مصطلح الرواية ديوان العرب الجديد – إلى سويات كالسورية الروائية في أمريكا اللاتينية، أو في اليابان على سبيل المثال.
وإذا ما أخذنا أطروحة الروائي الذي انتقل من الشعر إلى الرواية توسلاً للمدينة في كليهما.. إن الرواية بقيت كذلك الفن الإبداعي الضحل كمُعادل “للمدينة الضحلة” التي أشارَ إليها الناقد صالح، ومن ثمّ بقي الشعر الإبداعي الذي يبدو وحيداً يُمكن للعرب أن يُفاخروا به، بينما بقيت كل الفنون والإبداعات «المدينية» ضحلة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار