خلف بلور المقهى

.. وتمضي بك الأيام، لا الأشجار استطاعت أن تجعلك منها، ولا الطير أعارك من جنحيه بعضاً من ريش، فأنت محكوم بالانتماء لبني الإنسان، هذا الانتماء القهري الذي يطالبك على الدوام بالنطق، وتبادل الأمكنة مع الفراغ، والسير تحت رعاية قدمين لا تجنيان لك من الزمن المتراكم في نعليهما سوى التعب، والكثير من الترياق الذي سوف تكتشف بالتتابع بأنه لن يرقى إلّا ليكون جرعات جافة من رمال مكلفّة بتأطير حنجرتك داخل دائرة من الصمت الذي يحكم طوقة حول عنقك بسلسلة من اللغوي، وكم ظننت بالعلن بأن هذا اللغوي المزخرف بالمنطق والأحلام المؤجلة هو ما يجعلك بمكان السيادة على الكائنات الأخرى، لكن سرعان ما يتهشم هذا الإيمان أمام ناظريك، وأنت تراقب من خلف بلور المقهى عصفوراً يفرد ريشه لاستقبال المطر، ثم يغادرك بعجالة من دون أدنى ارتباك ليلتحق بغيمة، هي أيضاً بمنأى عنك مهما بالغت حبالك الصوتية في استجداء تفاصيلها لتكون جزءاً منها، فهي من المحيط، وأنت من تراب، وذاك الطائر قدَّ جناحيه من فضاء قصيدة تحاول كتابتها على الدوام تيمناً بعيني امرأة تجاور بفرضياتها جدران غرفتك المشيدة بالمجان ضمن فضاء أزرق ظننته البداية المثلى للتحليق، فزج بك طائعاً داخل علبة ضيقة من البلاستك المقوى بالأفول بين أزراره على هيئة همهمات لأحرف تفشل دائماً بأن تكون قصيدة، ولأن الإصرار على بلوغ الغيم هو جزء من تكوينك البدئي، ستعتق من أقفاصك البلاغية جميع ما خلفه لك الأسلاف من جمل مفيدة، فاللغة منذ ولادتها في رحم المغارة، أبت ألّا تكون سوى إشارات تقود المسافر إلى غايته الأخيرة لكنها فشلت -مثلك تماماً – في بلوغ الغاية القصوى للمعنى، مما جعل التأويل – عبر تاريخ الإنسان – يقف في الصدارة عند الانحياز لأي حكم نعتقد بأن قسوته سوف تصل بنا إلى ما بلغه الطير عندما ناداه المطر، هل تسأله عن الغاية التي جعلت منك مقامراً وسط هذا الكم الذي يملى عليك من هاتفك الجوال من دون إذن، الطيور، كما المطر، لا تجيب عن تساؤلاتك، يعتقدان بأنهما تجاوزا بلاغاتك مذ تخليت عن أن تكون عاشقاً لمرأة تستنبت الحروف من عينيها لتكتب قصيدة .. لا بدّ إذاً من تجاوز هفوتنا الكبرى: تؤكد لك نظرتها المثبتة داخل إطار الشاشة، وبصمت، كما يفعل كل من اختفى خلف بلور المقهى خوفاً من أن يفضحه الحلم، تطالبها بالإجابة عما نحن فيه، لكنها هي أيضاً لا تقوى على الطيران، وبعيدة عن أن تكون غيمة، ليس لأنها من تراب، بل لأن أوراقها أجهدها التعب فتساقطت ولم تعد شجرة!!..

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار