حكاية جدار ولوحة

في العودة السريعة لأكثر من عشرة آلافٍ من السنين، إلى بعض الكهوف والمغاور التي كانت محل إقامة للإنسان القديم، وتأمل جدرانها، أو ما اكتشفه إنسان اليوم من خلال أعمال التنقيب، والأبحاث الأركولوجية؛ لابدّ لمتأمل أن تنتابه «نوبة» جارفة من الأسئلة؛ لعلّ أبرزها: التساؤل عن الدافع الجمالي، الذي جعل من «كائنٍ» خائف من كلِّ شيء: حيوانات مفترسة، غضب الطبيعة، ثم الجوع والمرض، ومع ذلك لم ينسَ في حمى الخوف والهلع أن يجد الساعات الطوال في العتمة، وكذلك إيجاد الأدوات لأن يُزيّن بها مكان إقامته – الكهف – الموحش برسومات، هي المُعادل الجمالي والإبداعي لما يُعانيه ، أو ما يُفرحه..
سؤال؛ لابدّ أن يكون خطر على بال مئات الدارسين، ماذا عساه أن يكون ذلك الشيء الذي دفع بأشخاصٍ بالكاد وعوا الأشياء من حولهم، وهم يعيشون ما يظنون أنه ملاذ في أعماق كهفٍ مظلم ومن ثم قضاء أيامٍ وأيام في جوفه يرسمون على جدرانه؟!
ما هو هذا الشيء الجواني الذي جعلهم يبددون مواردهم التي تُعدّ في قياسات ذلك الزمان القصي، مواردَ ثمينة من دهن حيوانات وزيوت لاستخدامها في الإضاءة بدل التغذي عليها؟! ماذا كان ذلك الدافع وطبيعته الذي جعلهم يهدرون كل تلك الأوقات الطويلة في النحت والرسم، وبذل الجهد، الذي كان من الممكن استثماره في الصراع مع الوحوش، أو التقاط الثمار وتأمينها لأيام الجوع؟!
أسئلة؛ لابدّ أن وقف عندها طويلاً الكثيرُ من الباحثين، ولابدّ أن يكونوا قد وصلوا إلى إجابة ما، منها مثلاً: إن الدافع الجمالي لدى الإنسان قديمٌ قدم الإنسان نفسه، وربما تشكلّ قبل أن يعي الكائن البشري ذاته، تماماً كما تُزينُ بقية الحيوانات والطيور أوكارها وأعشاشها، وأعتقد أن في تشكيل خلايا النحل ما يُشبه الإعجاز المعماري والتشكيلي في بنائها، ومثلها كذلك الكثير من الأعشاش لبعض الطيور، وحتى الكثير من الأوكار والجحور للكثير من حيوانات البراري..
وحتى إن صدقت بعض النظريات في الإجابة عن تلك الأسئلة، النظريات البحثية الآثارية التي تقول: إن الدافع لإنسان الكهوف، أو (الشامانات)، وهو الاسم القديم للكائن البشري، من الرسم والنحت على الجدران، كانت بمثابة «نذور» أو ما يُشبه القرابين أملاً في جلب الحظ، وتوفيقهم خلال رحلات الصيد التي كانوا يقومون بها..
حتى في هذه (الرؤية) للبشري القديم؛ ثمة حالة مُفعمة بالشاعرية، وهي أن أعمال الرسم هذه تُجلب له الحظ السعيد، والتي من خلالها حوّل كهوفه إلى مراسم لجلب الحظ والفرح، ولاسيما مع ذلك الوعي لديهم في تواصلهم مع عالم الأرواح، وأيضاً كما تقول تلك النظريات إن تلك الجدران المطبوعة بـ«الكفوف» تعود معظمها لصبية تتراوح أعمارهم من عشرة إلى ستة عشر عاماً..
ما أودّ الإشارة إليه ليس الطبيعة الإنسانية المُحبة للجمال منذ قديم الدهور وحسب، والتي كان خلالها يجد ذلك (الإنسان) حتى في صراعاته المحمومة؛ خلوة ما، يختلي من خلالها ليُشبع غريزته الجمالية، وإنما، كان ذلك الإنسان ولايزال مُلهماً إلى اليوم في مزاولة الإنسان المُعاصر لأن يكون فناناً يُجمّل الجدران، سواء جدران منزله، أو جدران حديقته، والجدران في الشوراع والمزارع وغيرها من نحت ولوحات وغير ذلك، واليوم لا معنى لجدار ليس من لوحة تُعلّق عليه..

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار