من “الغارية” إلى العالم
تتزاحم مفردات الريف السوري في مشوار الراحل عبد الكريم فرج (1943- 2021)، لكنه يتخلى عن الصور المعروفة، مفضلاً البحث عن معادلٍ ذهني لها، فالريف حسب تعبيره ثقافة ليس لها حدود، تعبر المحافظات لكنها تتغذى دائماً من الجمهور، وتالياً إذا كان الفن يتجه نحوها ليغترف من معينها، فهو صادق مع الناس ومؤثر فيهم، ذلك ما أدركه التشكيلي، فالجمهور أحياناً لا يعرف الجزئيات في عمله الفني، لكنه يشعر بأنها جزءٌ منه، السبب رؤية تأملية شمولية يشعر بها كل سوري حتى لو كان غير مثقف.
هذا الإيمان دفع عميد كليتي الفنون الجميلة بدمشق والسويداء سابقاً، والحاصل على وسام الاستحقاق بمرتبة فارس من بولونيا، لتغليب الوجدانيات وإظهار بساطة الريف السوري والنقاء الذي يُميّز تفكير أبنائه بعيداً عن التورية والمواربة، وحين سألتُه على هامش معرضه في المركز الوطني للفنون البصرية عام 2017، عما فرضته المدنيّة وما فعلته الحرب على سورية لاحقاً في تغيير أطباع الناس التي أصبحت أكثر حدّة، أجابني إن البقاء بالقرب من وجدان الآخرين وحياتهم ومطالبهم، يؤكد أن الحروب والنزوات عابرة ويجب أن تمر، إذ يُفترض في رأيه أن يبقى جوهر الشعوب سامياً ومعمقاً في رؤاه، حيث يتجه كل منا إلى وجدانه وقيمه الخيّرة، حتى يمكن لنا أن نفهم كيف أن «الغارية» مسقط رأسه في السويداء، تشبه «باب الهوى» على الحدود السورية، كيف أنّ فيها شيئاً من تدمر وريف دمشق، شيءٌ من العموم السوري.
لم تكن توليفة البساطة والحالة الجمعية سهلة، لا سيما أنها مرّت بعدة تحولات وترافقت دوماً بالاشتغال على التقنيات وتطويرها، بموازاة مُؤلفاتٍ وضعها في التشكيل، والكثير من المعارض الفردية والجماعية داخل سورية وخارجها، لكن فرج كان يستند دائماً على إرثه الأول كمرجعية وهوية وأرض صلبة يعرف كيف يُخرج أجمل ما فيها، يقول «عيني على طفولتي ويفاعتي والناس من حولي، هؤلاء حاضن حقيقي لإبداعي الفني، ما أوصلني لاحترام كل المجالات العالمية التي درستها أو شاركت بورشات عمل عنها، لأن بذرة الفن الأولى المنطلقة من فكرة، مقروءة فكرياً وبصرياً وبالبصيرة أيضاً في جميع أنحاء العالم، هي الأصدق والأقرب لجميع الشعوب».