الكماشة الأمريكية بوضعية نصف الإطباق
تمكن النظام السعودي من تلافي التداعيات الدولية المحتملة لحادثة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية باسطنبول 2 تشرين الأول 2018، ثم الإفلات من دفع أثمانها الداخلية التي كانت تحتمها حالة التوتر الحاصلة داخل الأسرة الحاكمة منذ تولي ولي العهد محمد بن سلمان لمنصبه آنف الذكر، وما حملته من انقسامات داخل التيارات القائمة في ما بين الأجنحة داخل تلك الأسرة، عبر الرؤية التي كان يتعاطى من خلالها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مع المملكة السعودية، وهي بإيجاز كانت تقوم على أمرين اثنين، أولاهما وجوب الاستفادة من الثقل الذي تمثله المملكة في سوق النفط العالمية، والذي يمكن من خلاله التحكم بأسعار النفط صعوداً وهبوطاً تبعاً للمصلحة الأمريكية الراهنة، وثانيهما أن نظرة ترامب إلى المملكة كانت أقرب إلى تصورها كـ”بقرة حلوب” سيكون من الخطأ اللجوء إلى “ذبحها” أو حتى الإضرار بضرعها أو قوائمها.
مع قدوم الرئيس جو بايدن للسلطة في واشنطن قبل نحو ستة أسابيع كان من الواضح أن ثمة انقلاب في الرؤية حاصل عند هذا الأخير قياساً إلى نظيرتها عند سلفه، وهي، أي الرؤية، تقوم في خطها العريض على وجوب “إعادة تقييم العلاقة الأمريكية- السعودية”، حيث الفعل هنا لا يعني فقط إعادة تقييم لتلك العلاقة زمن ترامب الذي طغى عليه هوسه بالمال السعودي بشكل فاقع، وإنما يعني بالتأكيد أيضاً مراجعة الحسابات منذ قيام “التحالف الأمريكي السعودي” الذي أسس له لقاء الملك عبد العزيز آل سعود مع الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في شباط من العام 1945 على متن الطراد “كوينسي”، لوضع ذلك التحالف في قوالب تحقق مصالح الشعب الأمريكي بالدرجة الأولى أياً تكن النتائج المترتبة على ذلك الفعل وفقاً للبيان الذي نشرته وزارة الخارجية الأمريكية، والذي سبق الاتصال بين وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن ونظيره السعودي فيصل بن فرحان .
كان ذلك التوجه ينذر بأن “بركة” العلاقة السعودية- الأمريكية لن تعود راكدة بعد الآن، والحجر، سابق الذكر، الذي تلقته لن يكون الأخير، بل لا يمكن تصنيفه على أنه الأثقل مما ستتعرض له، ومن الممكن الجزم بأن مسلسل سقوط الحجارة سوف يتوالى تباعاً في غضون المرحلة المقبلة، والقريبة منها على وجه التحديد.
أماطت الإدارة الأمريكية أواخر شهر شباط المنصرم اللثام عن تقرير كانت قد أعدته الاستخبارات الأمريكية عن حادثة اغتيال خاشقجي، والفعل يرمز للكثير خصوصاً بعدما تأجلت عملية الكشف عما يحويه ذلك التقرير لعدة مرات، وهو مؤشر لتصعيد ترمي إليه واشنطن في أتون رسمها لعلاقتها المستجدة مع الرياض، وما ورد في ذلك التقرير كثير، لكن أهم ما جاء فيه “توصلنا إلى استنتاج مفاده بأن ولي عهد العربية السعودية محمد بن سلمان أجاز عملية في اسطنبول لاعتقال أو قتل الصحفي جمال خاشقجي”، ثم يمضي التقرير لعرض الأسس التي استند إليها في خلاصته سابقة الذكر، فيضيف أن عملاً من هذا النوع لا يمكن حدوثه إلا استناداً لقرار صادر عن رأس هرم السلطة التي يمثلها هنا محمد بن سلمان، بسبب سيطرة هذا الأخير على أجهزة الأمن، وكذلك بسبب وجود أعضاء في فرقة الاغتيال يتبعون بشكل مباشر لأوامر ابن سلمان، وعلى رأسهم ماهر المطرب الذي قاد العملية على مر مراحلها وصولاً إلى نتيجتها النهائية.
يصح اعتبار التقرير الأمريكي سابق الذكر مقدمة لتحول في العلاقة القائمة ما بين الرياض وواشنطن منذ ما يزيد على سبعة عقود ونصف، أما المرامي المأمولة أمريكياً من هكذا خطوة، فهي تحتمل سيناريوهين اثنين، أولهما الضغط على الملك السعودي بغرض دفعه نحو التخلص من ولي عهده، وابنه، بالمعنى السياسي للكلمة، وثانيهما هو الضغط على السلطة ككل، بما فيها ابن سلمان، للحصول على تنازلات كبرى في ملفات تبدي فيها الرياض مقاومة تجاه الرغبة الأمريكية وأبرزها ملف الحرب على اليمن والعودة الأمريكية المفترضة للاتفاق النووي مع إيران.
وإذا ما أردنا التنبؤ في أرجحية أي من السيناريوهين السابقين يمكن القول بأن الثاني قد يكون هو الراجح الذي تبتغيه الإدارة الأمريكية قياساً لمعطيات عدة منها، أن العقوبات التي فرضتها واشنطن على النظام السعودي ما بعد حادثة اغتيال خاشقجي كانت قد طالت 76 شخصية سعودية لم يكن من بينها محمد بن سلمان، ثم أن تقريراً لصحيفة “نيويورك تايمز” المقربة من غرف صناعة القرار الأمريكي كانت قد استبعدت ذهاب إدارة بايدن لزعزعة استقرار العرش السعودي لأن “ثمن خطوة كهذه عال للغاية، وستضع واشنطن في موقف عدائي مع الرياض”.
الكماشة الأمريكية الآن في وضعية نصف الإطباق على نظام الرياض، وتباشير الحصاد توحي بإمكان امتلاء الجعبة الأمريكية بدرجة تفوق نظيرتها زمن الرئيس السابق دونالد ترامب.