عن إبداع البساطة والعفوية وملحقاتها ..!
من الندرة اليوم؛ أن تجد قراءة نقدية لأيّ عملٍ إبداعي، ومهما كان نوعه: قصة، شعر، رواية، عمل تشكيلي.. إلا ويستخدم صاحب القراءة النقدية مُصطلح (العفوية).. وأكثر ما يتردد استخدام مُصطلح العفوية في الأعمال التشكيلية، لاسيما في قراءة اللوحة التشكيلية، وتحديداً في الأعمال التي تبتعد إلى حدٍّ ما عن (الحرفنة، والصنعة)، ومن المدرسية والأكاديمية المُقعرة، لدرجة أن رافق هذا المُصطلح في بعض الأحيان مُصطلح آخر، وهو (الفطرية)..
في الفنون التشكيلية، ربما انتشر هذا المُصطلح مع انتشار أعمال فنانين أطلق عليهم نقاد الفن التشكيلي تسمية (الفطريين)، وفي مقدمة هؤلاء الفنانين؛ أبو صبحي التيناوي، الذي لفتت أعماله البدائية نظر بعض السياح الأجانب، والذين أقبلوا عليه كبضاعة ليست لهم، وليست مردودة إليهم كما في معظم الأعمال الإبداعية التي هي نتاج الغرب، أو هي مُعادل لما أنتجوه، أو مُقاربة لها.. ويُمكن أن نذكر أيضاً الفنانة عائشة عجم مهنا، وغيرها من الذين اشتغلوا وقدموا أعمالاً فنية بعيداً عن الدراسة الأكاديمية، ومن دون حساب لأي اتجاه فني، أو مدرسة أو مذهب فني، وحتى من دون مراعاة لأي معايير تشريحية وقياسية، كأن تكون الزهرة أكبر من الصبية على سبيل المثال.. فنانون لم يدرسوا في الجامعات وليسوا خريجي أكاديميات، وربما لم يدخلوا مدرسة في حياتهم، وهم أميون تماماً، وأعماله لا تختلف كثيراً عما تُنتجه خيالات الأطفال..
احتمالات البداية
ومع ذلك؛ لا أعرف على وجه الدقة – وربما قليلون هم من يعرفون أيضاً – متى بدأ الاستخدام لمصطلح العفوية في النقد، على ساحة النتاج الأدبي، والفني على تنوعه واختلافه ” العفوية ” التي انضمت بدورها إلى قاموس من المصطلحات النقدية الواجب توفرها في كل نص نقدي تقريباً، أو هي من الذخيرة الحية التي يطلقها الناقد المعاصر على مختلف صنوف النتاج الإبداعي.. وهي بكل الأحوال “نيران صديقة ” أو من نوع ” البرد والسلام ” على النص المنقود، أي من دون أذية نقدية، أو من دون مضاعفات جانبية مؤذية للمنقود نصاً ومبدعاً، غير أن الذي أعلمه أن ثمة رهطاً من النقاد اليوم يُكثر من استخدام مصطلح “العفوية” أحياناً لمجرد الاستخدام وحسب، وليس بالضرورة لأن النص الذي هو مجال النقد يذهب باتجاه العفوية!
تقول المعاجم
و”العفوية” على ما تجمع عليه المعاجم تقريباً هي: عَفَوِيَّةُ عَمَلٍ: تِلْقَائِيَّتُهُ، وتلقائيّ، ما نقوم به بدافع ذاتيّ من دون تأثير خارجيّ، غير مكتسب بالتَّعليم، وعَفْو الخاطر: تلقائيًّاً، ارتجالاً، من دون إعداد.. وتُكثر المعاجم أيضاً من التوضيح في أمر “العفوية، فثمة إجابةٌ عَفْويَّة، هزَّ رأسَه عَفْويًّاً، ردّ فعلِ / تصرُّفٌ عَفْويّ، وعَمَلٌ عَفْوِيٌّ: تِلْقَائِيٌّ، أَيْ من دُونَ إِعْمَالِ الفِكْرِ، إِشَارَةٌ عَفْوِيَّةٌ، حَرَكَةٌ عَفْوِيَّةٌ ..
ومن إجابات المعاجم لمعنى العفوية، وتفسيرها لها؛ تؤكد جميعها أنها أبعد ما تكون عن النص الإبداعي الحقيقي، فالمبدع الحق لا يكتب عفوياً، وتلقائياً، ومن دون إعمال الفكر، كما تُفسّر المعاجم، بل إنّ كل عمل إبداعي، يتم بوعي وبمخطط مسبق، وبإعمال أقصى ما يمكن للفكر، ومعظم النتاجات الإبداعية هي بدافع ذاتي وبتأثير خارجي، أي دائماً ثمة باعث للإبداع؛ غالباً هو خارجي مع توفر الإرادة الذاتية للعطاء الإبداعي، الأمر الذي يتنافى تماماً مع مصطلح “العفوية” حسبما ترى المعاجم.. وحتى في الأعمال التي تذهب باتجاه الفطري، لاسيما من خلال الأمثلة التي بدأنا للفنانين: أبو صبحي التيناوي، وعائشة عجم مهنا، ورغم كل الفطرية في التشكيل، غير أنهما كانا يُقدمان أعمالهما بمنتهى الوعي والتخطيط، وإعمال الفكر..
ربما هنا المقصود بالإبداع الذي يأتي على سجيته حيث تنتقل المشاعر والكلمات بسلاسة تُشبه التلقائية إلى الآخرين، ومن دون حواجز التصنع التي تشوه جمالية المشاعر، أي ذلك النص الذي يوحي بالعفوية، أقول يوحي فقط، وليس أكثر من ذلك، وهنا قد تكون “اللعبة” الإبداعية، أي الكامنة في هذا الإيحاء، بمعنى (العفوية) المقصودة، والتي هي إحدى غايات العمل الإبداعي وشواغله..
التباس العفوية
مع ذلك؛ فإنّ ثمة اليوم التباساً فيما يخص “العفوية” التي لا أراها تنسجم مع التقيد بأسس ومقومات الإبداع، وفي كل الأحوال لا أؤمن بـ”العفوية” في أي نوعٍ أدبي، هنا يكمن ثمة إشكال، وربما التباس قد يوقع بالمتلقي، فما يسميه البعض “عفوية” ربما نظر إليه آخرون على أنه “السهل الممتنع” – كما أطلق عليه النقاد ذات حين من الدهر- وهذا الأخير من جملة المصطلحات التي هي من الذخيرة الحية للناقد المعاصر – سواء جاء ذلك في قصيدة، أو في قصة قصيرة، وحتى في لوحة تشكيلية، وفي مختلف فنون القول، والإبداع بعامة.
ثمة عدة أمور قد تحاكي العفوية في النص الإبداعي وهي: الابتعاد ما استطاع المبدع إلى ذلك سبيلاً عن الإنشاء والمباشرة، وفي المقابل الابتعاد قدر الإمكان عن الذهنية والغموض، والتغميض، ومن ثم الاقتراب قدر المستطاع صوب “السهل الممتنع” أو إبداع البساطة إن شئت، الذي يُقارب العفوية، أو يوحي بها.
وعدة المبدع في كل ذلك الموهبة التي تصقلها الثقافة، وهذه حقيقة واقعة في مختلف فنون الإبداع وليس الشعر والقصة وحسب، فالموهبة وحدها تأتي بالإبداع – غالباً – لمرة واحدة، أو مرة واحدة بنسخ كثيرة ومكررة، وهذا ما لاحظناه عند الكثير من المبدعين الذين خذلتهم الموهبة العارية من الثقافة في الكثير من محطات عمرهم الطويل، الأمر الذي جعلنا نتمنى عليهم لو اكتفوا بنتاجهم الأول الذي وضعوا فيه كامل زخم الموهبة دفعة واحدة، ومن ثم كان لمرة واحدة، وهذا ما لم نجده عند مبدع موهوب ومثقف بحجم مفكر كأدونيس، الذي بلغ من العمر عتياً، ولايزال في كل مرة يذهلنا بكل جديد يقدمه..
الموهبة العارية
الطفولة هي بداية تلمس الخبرة، ثمة فنانون عفويون، يقدمون أعمالاً بسذاجة وببساطة، وهم كانوا ذات حين كثراً في أغلب مناطق المجتمع ، وبتقدير الفنان والناقد التشكيلي طلال معلا كما ذكر لي فإنّ العفوية والفطرية والطفولية التي تصدر عن فنان حرّيف، هي نوع من الكذب، أما الفنان الذي يقدم أعمالاً من عمقه الساذج بالأساس، فهذا ليس عيباً، أو إنه فنان لم يلم جيداً بالخبرات الفنية كما يجب.. هناك جانب علمي في الأمر مادمت أنتج بناء على خبرة، فثمة أمور تقنية لا تأتي بشكلٍ عفوي، ثمة صراع بين الأكاديمية والفن الفطري، هذه حقيقة، الأمر الذي قتل الكثير من الفنون الفطرية، وتهميش الكثير من الفنانين الفطريين.
ويضيف معلا: في المجتمعات وفي عمقها كان ثمة الكثير مما كان يُرسم فطرياً على جدران المنازل من أساطير وحكايا، قدمت على أنها معالم فنية في بيوت الكثيرين، وطالما تساءلت عن لوحة “فاطمة المغربية” التي تحولت كحالة جمعية لتحتل جدران الكثير من البيوت، وكذلك لوحة الخضر، أو مارجرجوس وهو يهجم على التنين في عرض البحر، ويغرز فيه رمحه، مُنقذاً سكان المدينة من هجماته المتوحشة.. ثم لوحة الطفل الباكي، الذي تحوّل إلى “الطفلة الباكية”.. فما الذي يحرّك مشاعر الناس لتستجيب بشكل محدد تجاه معالم جمالية معينة، الفن الطفولي والفطري هو ما ينتجه المجتمع في بداية تلمسه معارف معينة.
ويُحكى عن بيكاسو؛ إنه كان يُردد – بما معناه – قضيت عمري، وأنا أسعى لأرسم كما يرسم الأطفال.