خليل الخوري .. رائد قصيدة التدوير
أستطيع بلا مبالغة، أن أعدّ الراحل خليل خوري مجموعة من الأشخاص تعيش في جسد واحد، فهو شخص منصرف إلى إبداع الشعر، وشخص منهمك في الترجمة، وشخص مفعم بالحياة، يعيشها بالطريقة التي يفهمها، وهو في كل ما أبدع من شعر، وما حقق في الترجمة، وما أنجز من نقد، وما تصرف في الحياة، ليعبّر عن تناغم عقلي متصل بعضه ببعض، فترجماته في الشعر والقصة والسيرة والبحث تستبطن ما يدل عليه إبداعه الشعري، ومقالاته النقدية توحي بذوقه الفني، وحاسته الجمالية، وثقافته الرفيعة.
وخليل خوري، بعد هذا وذاك، في الشعر والنثر معاً، إبداعاً وترجمة وبحثاً، صاحب أسلوب خاص، تسترسل فيه (السليقة) المدربة مع المقدرة الموجهة: وضوح ساطع ينأى عن البدع اللغوية، وعمق ينأى عن الغموض المفتعل، وعقلانية متواشجة تنأى عن البرودة والتخشب الذهني، وقد ظل خليل خوري محافظاً في كل ما كتب وترجم على مستوى واحد من الرفعة الأسلوبية من غير أن تعثر على التواءات متعرجة.
ومن أجل ذلك كله، يعد إنجاز خليل خوري الثقافي، في شتى حقول المعرفة، مكتبة شبه كاملة، إن لم تكن كاملة، دونكم دواوينه لتجدوا أنه يزاحم الرواد في الابتكار والتنوع، ودونكم ترجماته المتنوعة لتتيقنوا أن ما اختاره أصبح جزءاً من ثقافة الأديب العربي، يغني نصه العربي عن نصه الأجنبي، وهذا فضيلة لا يرقى إليها إلا الجهابذة في الترجمة، كطه حسين، والمازني، وسامي الدروبي، ومنير البعلبكي وغيرهم، لقد أصبح لكل من رامبو وبودلير وجه عربي ناطق بلغة عربية فصيحة، من غير أن يكون ثمة شك في دقة الترجمة وسلامتها، وقل مثل هذا القول في السير التي نقلها إلى العربية، (تشيخوف، تولستوي)، وفي الروايات التي ترجمها (ابنة الضابط لبوشكين، إبك يا بلدي الحبيب، لالن بيتون..) لكن يظل خليل خوري، قبل هذا وبعده، شاعراً يحاول أن يقف على محور الأشياء، كما يقول شاعر صيني قديم، وقد كان حريصاً على أن يظل واقفاً على محور الأشياء، قد تنزلق به قدمه، مرة، فيبتعد قليلاً، لكنه سرعان ما يلم عثاره ويعود إلى وقفته باستقامة وثبات، موجهاً عينيه إلى حافات العالم من جهاته الأربع، ولذلك جاء شعره متنوعاً: فيه القصائد الطوال والقصار، وفيه الشطري والتفعيلي والنثري، لم يترك باباً من أبواب الشعر، ولا غرضاً من أغراضه إلا ضرب فيه بسهم، كما يقول القدماء، ومع إن نتاجه الشعري ليس غزيراً، لكنه ظل متصلاً بعضه ببعض، يفضي أوله إلى آخره، وقد أصدر فيما أظن مجموعات شعرية لا تزيد على ست (حبات قلب، صلوات للريح، لا در في الصدف، رسائل إلى أبي الطيب، اعتراف في حضرة البحر، وأغاني النار).
وأنت إذا قرأت شعره قراءة تدبّر، وجدته مهموماً بأمرين جوهريين: الهمّ القومي، بكل ما ينتابه من عوامل النصر والهزيمة والإحباط والتشرذم والخيانات.. والهمّ الذاتي الوجودي، بكل ما تعتمل في دواخله من تأملات وانفعالات بمعنى الحياة، والموت، والمرأة، والطبيعة، والسماء، والأرض، وما يترامى وراءها مما هو غير مرئي، أو مكشوف، أو معلق. وخليل في كلا الهمين يصدر عن حاسة شعرية تكاد تكون واحدة، هي أن تجربته تتجسد في كيانها اللغوي على قاعدة من التقاء الهمّ الوجودي بالقومي، من غير أن تكون قادراً، في أفضل نماذجه، على زحزحة أحدهما عن الآخر، فالعالم في بصيرته مشروخ، لا الذات تصالح نفسها، ولا هي تصالح العالم، ولا العالم قادر على مده بما يرقى بالذات إلى مدارج الروح المطمئنة، وهو إذ يتأمل، لا يأمل آمالاً خائبة، لأن الخيبة جوهر التأمل، خذ ديوانيه (لا در في الصدف، واعتراف في حضرة البحر) وهما في ظني أهم ديوانين له يعبّران أجلى تعبير عن هذه القاعدة التي تصدر عنها حساسيته الشعرية.
وهذا يعني أن خليل خوري، في حساسيته الشعرية، كان يحاول أيضاً، أن يصدر عن تصور حديث في كتابة القصيدة، هذا التصور الذي يقوم على أمرين، جوهريين كذلك، الخلخلة في الوجود الإنساني الذي تتحول فيه الخطيئة ، إلى خطيئة متغلغلة في الفعل اليومي، في أدق تفاصيل هذا الفعل، والثاني، هو أن هذه التجربة الروحية تعبّر عن نفسها بضرب من التجريبية الشعرية الباحثة عن شكل آخر مختلف عن الشكل السائد، عمودياً كان، أم حراً، أم نثرياً، وهذا المنحى واضح في ديوانيه المذكورين، حتى لنستطيع أن نعدهما ديوانين تجريبيين.
وخليل خوري من أوائل الشعراء العرب الحديثين، الذين انغمروا في التجريب الشعري، ولكن من دون أن يضيعوا في متاهاته بعيداً عن الشعر، إذ كان في تجريبيته حريصاً على أن يصل إلى جوهر الشعر وأن يمسك به، وفي هذا الصدد يقف ديوانه (لا در في الصدف) في طليعة الدواوين التجريبية للشعر العربي منذ وقت مبكر، وقد استطاع في إحدى تجريبياته الشعرية هذه أن يخترق ويتجاوز كل المحاورات التي تهدف إلى الغاية نفسها في وقت مبكر، وأقصد بذلك قصيدته الرائدة (الشمس والنمل)، فهي القصيدة التي انطلقت منها (القصيدة المدورة)، كما استقرت عند الشاعر حسب الشيخ جعفر، فيما بعد.
لم تكن (الشمس والنمل) تجريبية في إيقاعها فقط، بل نقل تجريبيتها إلى التعبير نفسه، وهذا يعني أن خليل كان مدركاً أن هذه القصيدة تتمثل الحداثة بطرفيها: الوجودي والتعبيري معاً.
وإذا كانت القصيدة مدورة قد أصبحت، بشكلها العروضي في الأقل، إحدى حقائق التطور الشعري العربي، وأنها لم تعد تحتمل مزيداً من النقاش، فإن قصيدة (النمل والشمس) كانت في حينها تجربة فريدة.
وإذا كان الإيقاع هو (صورة الأسلوب الصوتية)، فإن أسلوبية القصيدة حافظت على نسق تركيبي واحد في بناء الجملة القصيرة، وهو نسق (الجملة الاسمية)، إن قصيدة (الشمس والنمل) مجموعة من الجمل الاسمية المتتالية، وإن وجدت فيها بعض الجمل الفعلية، فهي جمل غير مستقلة لأنها جمل تابعة (وصفية) لخبر المبتدأ.
هذه الوحدة الأسلوبية هي بطريقة أخرى الطريق إلى وحدة القصيدة الفكرية والروحية، مثلما تحققت لها وحدتها من خلال (الاستعارة التمثيلية)، الرؤيوية.
لماذا التزمت قصيدة (الشمس والنمل) بمبنى الجملة الاسمية، أسلوبياً؟ يخيل أن (الرؤية القاهرة) التي تقدمها القصيدة هي رؤية أبدية، لا تستطيع قوى التاريخ وحقائق الطبيعة أن تغير منها شيئاً، إن (ثبوتية الرؤية القاهرة) قد وجدت تجلّياتها التعبيرية في الجملة الاسمية التي تعبر عن الثبات بصورة عامة، وهذا يعني أن مستويات القصيدة الإيقاعية والتركيبية والدلالية تتناغم فيما بينها، بصورة يعضد فيها كل مستوى المستوى الآخر، وإذا كنت قد فهمت شيئاً مما يسمى انسجام (الشكل والمضمون) مع يقيني أن هذا الانسجام لا يعدو أن يكون خرافة نقدية، فإن قصيدة خليل خوري قد استطاعت أن تحقق ذلك.