روايات عن الحرب.. بعضها كتب على عجل وأخرى لم تخرج بريئة
يختلف روائيون سوريون على جدوى الكتابة عن الحرب مادام الموت هو سيد الموقف، كما يختلفون على توقيت الكتابة، فالبعض يقول بضرورة الانتظار إلى حين انتهائها والبعض الآخر يقول: ما الضير في الكتابة أثناء الحرب مادمنا نتناول انعكاساتها وتبعاتها على المجتمع إنسانياً واجتماعياً وثقافياً وحياتياً؟ يقول الأديب نذير جعفر: هناك من يقول: ما جدوى الكتابة عن الحرب مادام الموت يتسيد المشهد بسواده؟ أليس من المبكر الكتابة عن زلزال ما بفجائعه؟ الكتابة مشروعة والحرب لا تقف على الخطف والقتل بل تنعكس بأشكالٍ متباينة على الجميع لذلك تستدعي تعبيراً فنياً وأدبياً وموقفاً منها سواء أكان اليوم أم بعد زمن ما وهذا يرتبط باستجابة المبدع ذاته واستشعاره وتنبؤه بتبعات الحرب وقدرته على رؤية ما يستوجب الكتابة عنه، لذلك فإنّ الرواية عن الحرب ليست مجرد رصد وتسجيل للواقع اليومي أو ما تفرزه؛ بل هي معنية بالمقام الأول بالتوغل في التداعيات العميقة على المستويين الاجتماعي والنفسي وتصوير ما أحدثته من تبدلات درامية ومصائر، وهذا يشرّع الكتابة لقول ما لم يقله الآخرون بأساليب وتقنيات جديدة ومخيلة تكسر الرتابة والمألوف واكتشاف الجوهر وصياغته بما يحقق المتعة والمعرفة ويرتقي بالشعور الإنساني إلى عرش الجمال ومحاربة الدناءة، مضيفاً: الرواية دخلت الحرب من أوسع أبوابها وكما توجد أخبار مضللة ظهرت روايات مضللة ولم تخرج بريئة، فهناك روايات في قفص الاتهامات وهناك روايات فيها مصداقية وتعبير حقيقي عمّا حدث ويحدث، موضّحاً: في المدوّنة السورية ما يزيد على مئتي رواية عن الحرب، وربما زاد العدد لأن هذه الإحصائية قديمة نسبياً، وممّا وقع بين أيدينا لكتّاب يعيشون داخل سورية وخارجها إضافةً إلى كتّاب عرب.
ويصنّف جعفر الرّوايات التي ظهرت خلال الحرب إلى خمسة أنواع، الأوّل: استعادة أحداث الثمانينيات مع قوى التّطرف في سياق حبكة سردية تنسج خيوطها بين الأمس واليوم عبر علاقة الشخصية المحورية بمن حولها عاطفياً واجتماعياً مكتفية بتسجيل وقائع معروفة عن تفجيرات واغتيالات، والمواقع المعلنة. وينجرف النوع الثاني إلى التقارير البعيدة عن فنية وجمالية العمل الروائي موجهاً خطابه السردي في أيديولوجية محددة وتصفية الحسابات والعداء المسبق وهذا لا يختلف عن سياسة الإعلام المعادي والمضلل الذي قلب الحقائق والأحداث، أمّا النّوع الثالث فاكتفى بدور الشاهد الذي يدوّن يومياته ومشاهداته، ومثل هذه الرّوايات تضع طرفي الحرب في كفّة واحدة بذريعة أنّهما يمارسان أساليب القتل نفسها، بينما اتّخذ النوع الرّابع منحى فلسفياً لفهم ما يحدث وتأويله عبر الحفر عميقاً في النّفس البشرية وما يعتريها ومحاولة معرفة أسباب العنف ومثال هذا النّوع رواية حسن صقر (شارع الخيزران) التي تحاول معرفة جذور الحرب على سورية، وهناك نوع خامس عاش مرارة الفقر والمعاناة والقتل والاعتداء، فانتصر لحقيقة ما حدث وما يحدث من أجل سورية فقط، فكان خطابه معززاً للقيم الوطنية والجمالية والمثل الأعلى، ونذكر هنا رواية (مفقود) لحيدر حيدر، ورواية (كتاب دمشق) لهزوان الوز، ورواية (طابقان في عدرا العمالية) لصفوان إبراهيم، وهناك رواية (أرض الجهاد) لمحمد أحمد الطّاهر، ورواية فيصل خرتش (دوّار الموت بين حلب والرقة).
وينوّه جعفر بالتّجربة النّسائية في هذا المجال، فيقول: خاضت المرأة السورية هذا الغمار بجرأة كبيرة وخرجت أصوات تستحق الاحترام وأثبتت حضورها من الرّواية الأولى مثل رواية مريم شعبان التي تحمل عنوان (تسعون يوماً في الربيع) وهي كاتبة تكاد تكون مغمورة لكنّ العمل يستحق القراءة ويتحدث عن اختطاف الإرهابيين لامرأة وما عانته، ويذكر هنا رواية (كارولين) لإيمان شرباتي، و(سمسم) لفاتن ديركي، ورواية سمر تغلبي، مؤكداً أنّه من بين مئتي رواية قرأها هناك عشر روايات يمكن أن يقال عنها إنّها روايات عن الحرب بامتياز واستوفت شروط الرواية.
ويوضّح جعفر: تصنيفي للرّوايات جاء بعد القراءة، هناك روايات تحمل مقولات سياسية مسبقة فكيف أصنّفها فنّياً، وهي تروي حكايات كاذبة فكتّابها لم يروا الجنود الذين استشهدوا ولا المدنيين الذين هجّروا، هؤلاء لم يكتبوا عن تهجيرنا وتشريدنا، ولم تذكر أنّ هناك (360) تنظيماً إرهابياً دخل إلى سورية، ولو كانت روايات فنية لكنت قلت رأيي الفني.
وتختلف الرّوائية إيمان شرباتي مع جعفر في كم الروايات عن الحرب الصادرة، تقول: الحرب ومحرّض مثير للكتابة ، لكن السؤال هنا: هل تكون التجربة ناضجة عندما تتناول الحدث طازجاً؟ وهل من وظائف الرّواية التّوثيق.. أكثر من 161 روائياً طبعوا روايات تناولت الحرب بينهم (61) روائياً سبقوا الحرب في نشر نتائجهم هذا يعني أنّ نحو (100) روائي حرضتهم الحرب على الكتابة والنشر ويمكن أكثر من (100) شخص جرّبوا النّشر تحت تصنيف رواية عن الحرب.. لكن نتائجهم لا ترقى إلى الرّواية، ومن دون القصد أنّ الرّواية شيء نمطي محكوم بضوابط صارمة، لكن يفترض أن تتوافر عناصر تستحق الارتقاء بالعمل إلى مستوى الرّواية. وتُضيف: أنا كتبت رواية (بنت العراب عام 2015)، وكانت الحرب خلفية لحدثها الرئيس وتناولت ما حدث في سورية بين عامي (2011 و2015 ) وأفسحت المجال لتطور الشخصيات، وتشابكها من دون تناول أحداث الحرب وصوت الانفجارات، لكن هل تكون التّجربة ناضجة عندما تتناول حدثاً ناضجاً، مضيفةً: الرّواية تستوقف التأمل لكن ما جرى في سورية لايزال مستمراً، لذلك ما كتب كان تقريباً من بين (400) رواية لا نستذكر سوى عدد قليل على أصابع اليدين.
ويعلّق جعفر على هذه الفكرة ويقول: هناك كتّاب غادروا سورية ولم يعيشوا سنوات الحرب عليها، بل غادروها منذ اليوم الأول من الحرب، وهم يكتبون كما تنقل عنهم قنوات الإعلام المعادي، ولم يروا «قازانات» الحمّامات الملغمة التي كان يرميها الإرهابيون على المدنيين في حلب! هؤلاء لم يكتبوا روايات فنية بل كتبوا روايات سياسية أيديولوجية مباشرة ومدفوعة الثّمن، فكيف لهم أن يكتبوا عن سورية وهم خارج سورية منذ عشرين سنة؟ هؤلاء يكتبون تصفية حسابات.. عندما تُهدد سورية تسقط كل “المعارضات”.
لكن متى تحصل الرواية على مرتبة الديمومية؟ سؤال تطرحه وتجيب عنه شرباتي: سؤال محوري على الرّوائي الجاد أن يطرحه على نفسه، ويعمل على رواية مرشحة للحياة عبر الابتكار والتخييل.. رواية عن الحرب هي رواية الواقع لكن ليست نقلاً حرفياً أو تصويراً فوتوغرافياً له، بل هي تستمدّ غناها منه وهي أكثر ديمومة وقابلية للتطوّر، والواقع في السنوات الأخيرة شكّل مادة غنية لهذا التطور فثمة رحيل وهجرة وتمسك بالحياة وتداخلات ومصاعب، كل هذه ثيمات وثنائيات يمكنها خلق أدب يحقق التنوع.
بدوره، يقول الأديب محمد الحفري: الرّواية الوثائقية حاضرة في عالم الأدب منذ بدأت الروايات، ويعدّ الإمتاع شرطاً من شروط الإبداع، وقيمة العمل الفنية يجب أن تطغى، ومن طبخ على عجل تبقى أعمالهم بلا طعم.. ويجب أن تتغلب الرّواية على الألم من دون إغفال التقنية والمتن العام للنص الروائي، مستشهداً ببعض الروايات الصادرة خلال الحرب على سورية ومنها رواية (الأرض تنبسط تحت الأقدام) لمنصور حاتم و(زناة) لسهيل الذّيب.. يتحدث عن أولئك الذين باعوا أوطانهم بثمن بخس وبعدها رواية (آثام) أيضاً و(السبية) لإبراهيم الخولي، والتي تأتي صارخةً ومستغيثة لكونها تتطرق لما تعرضت له المرأة السورية من ظلم وقهر.
ويوضّح الحفري: لا يزال ما كتب في مختلف الآداب قليلاً تجاه الفاجعة والمأساة التي عشناها، قرأت الكثير من الروايات وقدمت لبعضه من دون معرفة أصحابها، وذلك لأنّها تستحق القراءة والاحترام، وردّاً على من يقول لا يجوز الكتابة أثناء الحرب وإنّ الكتابة تكون منحازة، يقول: عندما أكتب عن طفلة فقدت أهلها بسبب الحرب على سورية؛ هل أكون منحازاً، وإن كنت كذلك فأنا منحاز إلى وطني، ومعي كلّ الحق، ومن يفكر بالكتابة على طريقة السّياسيين؛ أقول: هي ليست مدحاً أو ذماً، هي وجهة نظر نقدّمها بطرائقنا الفنية، والذين يضعون رجلاً في الأرض السّهلة وأخرى في الأرض البور أقول لهم: لن تكتبوا أبداً.