ثنائية الحكم الأمريكية.. هل أزفت ساعة الرحيل؟

لم تكن الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي جرت في 3 تشرين الثاني الماضي عادية، ولا كانت الحملات الانتخابية التي سبقتها كمثيلاتها من الحملات الانتخابية التي شهدتها البلاد على امتداد قرنين أو يزيد، ولا كانت أيضاً الأحداث التي تلت تلك الانتخابات عادية من حيث التداعيات التي خلفتها وصولاً إلى يوم التنصيب في العشرين من شهر كانون الثاني المنصرم، والذي كانت صورة ما سيحدث فيه ضبابية حتى قبل 24 ساعة منه، في مشهد لم تعتده الحياة السياسية الأمريكية منذ أن قامت ولاياتها المتحدة.

لم تكن تلك الحالة تمثل ظاهرة فردية تتعلق برئيس أراد الاستئثار بالسلطة أو التمسك بها حتى آخر رمق حتى ولو أدى ذلك إلى تشققات في بنيان التركيبة المجتمعية والسياسية للبلاد، بقدر ما كانت تعبيراً عن واقع داخلي مأزوم تعتريه استعصاءات في شتى الأنحاء التي يجب فيها على العربة السير إليها إذا ما أرادت إثبات أنها تسير وفق خط بياني متصاعد، وذاك بالتأكيد، في حال حصوله، يمثل مؤشراً على صوابية المسير والمسار، وإن كانت الصبغة التي جاء عليها ذاك التعبير ذات لون سياسي بدرجة فاقعة تمظهرت، أكثر ما تمظهرت، في تهتك نظام “المجمع الانتخابي” الذي أقر قبل ما يزيد على قرنين، في محاولة للمشرع لتثقيل دور “النخب” الاقتصادية والمجتمعية والفكرية في مواجهة دور الشارع الذي تتلون رؤاه وفقاً لأساليب الدعاية بسهولة تجعل من رمي البيض كله في سلة هذا الأخير ضرباً من السذاجة والبساطة وفقاً للتقديرات التي تبناها مقرو ذلك النظام.

سادت ثنائية الحزبين الديمقراطي والجمهوري الحياة السياسية الأمريكية منذ أواخر القرن التاسع عشر الذي شهد ولادة هذا الحزب الأخير من رحم الأول على خلفية الافتراق حول “مؤسسة العبودية” التي كانت تمثل أساس النظام الاقتصادي القائم في أمريكا آنذاك، فالحزب الديمقراطي الذي تأسس العام 1828 كان يؤيد ويحمي نظام العبودية، حيث سيقدم اختراع “الحصان البخاري” فرصة التقطها بعض أفراد الحزب لركوب موجة تحرير العبيد الذي جاء على يد الرئيس أبراهام لنكولن، والمؤكد هو أن تلك العملية كانت ذات صبغة اقتصادية بالدرجة الأولى وإن كانت قد تمظهرت بصبغة أخلاقية أو إنسانية على وجه التحديد، ركوب تلك الموجة لدى هؤلاء هو الذي أدى إلى ولادة الحزب الجمهوري، حيث سيمضي الحزبان فيما بعد في بناء تنظيميهما وإيدلوجيتيهما في العديد من المراحل التي مرا بها، والتي كان آخرها في العام 1932، والتي نتج عنها الشكل الحزبي الذي لا نزال نراه حتى اليوم في الولايات المتحدة، وهو باختصار وضع سياسي يجب فيه على كل طرف أن يقدم طروحاته السياسية الخاصة به، والتي يتمايز بها عن الطرف الآخر، ثم يحتكم الطرفان إلى الشارع ومعه النخب التي أقرها نظام “المجمع الانتخابي”.

شهدت الحياة السياسية الأمريكية منذ أن تبلورت بشكلها الراهن العديد من المحاولات لتأسيس كتل وازنة من شأنها أن تكسر احتكار الثنائية سابقة الذكر للمشهد السياسي الأمريكي، من نوع تأسيس حزب الاستقلال في العام 1971، ثم حزب الخضر العام 1991، ثم حزب الدستور العام 2002، إلا أن كل تلك المحاولات لم تستطع إحداث تغيير يذكر في التوازنات السياسية القائمة التي كان يمثلها تراصف القوى الاقتصادية والمجتمعية حول الحزبين، الأمر الذي فرض حالا أشبه بـ”ستاتيكو” سياسي داخلي لم يزل قائماً حتى اليوم.

الآن، يبدو في خضم الصراع الدائر داخل الحزب الجمهوري على خلفية تأييد بعض قيادات الحزب لإدانة الرئيس السابق دونالد ترامب، وكذلك الصراع الدائر بين طرفي ذلك الحزب مع الديمقراطيين، تبدو في الأفق ملامح بروز نزعة متنامية لدى شرائح واسعة من الشارع الأمريكي لتأسيس حزب ثالث، فقد أظهر استطلاع للرأي نشره مركز “غالوب” للأبحاث شهر شباط الجاري، وجاء فيه أن 62 % من الأمريكيين يعتقدون بوجود ضرورة لإنشاء حزب ثالث في ظل الانقسامات الأخيرة، في حين توحي باقي الأرقام التي عرضها ذلك الاستطلاع بأن ولادة افتراضية لذلك الحزب ستخرج من رحم الحزب الجمهوري الذي أيد فيه 68 % من جمهوره بقاء ترامب رئيساً للحزب، في حين ارتأى 31 % من نفس الجمهور وجوب مجيء رئيس جديد للحزب، هذا يعني في ظل تمسك ترامب برئاسة حزبه إمكان حدوث انشقاق داخل هذا الأخير بثقل يعادل الثلث، وقياساً إلى النتائج التي أفضت إليها الانتخابات الأخيرة فإن مجموع الذين صوتوا لدونالد ترامب كان يقرب من الـ70 مليون ناخب، وهذا يعني أيضاً، أن ثلثهم لا يرغب باستمرار ترامب في زعامة الحزب، ما يعطي الفرصة لولادة حزب ثالث ذي وزن قادر على المنافسة وكسر الثنائية التي سادت لفترة امتدت لأكثر من قرنين من الزمن.

 

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار