تكاد منظمة الصحة العالمية تغيب عن ميدان «كورونا» بعد أن وصل إلى مرحلته الأهم وهي إنتاج اللقاحات وتوزيعها والبدء بعمليات التطعيم وتوسعها وما يرافقها من ملفات.. ومن حديث أيضاً عن مؤامرة من نوع ما، واستغلال، وتسييس، تماماً كما هو الحال عند الحديث عن أصل فيروس كورونا ومنشأه، وهو الحديث المستمر منذ الإعلان عن بدء انتشار هذا الفيروس في تشرين الثاني من عام 2019، لدرجة تم اعتبار المنظمة نفسها طرفاً مشاركاً في هذه “المؤامرة”.
لنتذكر كيف كانت المنظمة طيلة العام الماضي نهباً لأقسى الاتهامات، وكيف وصل الأمر بإدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى قطع التمويل الأميركي عنها ثم الانسحاب منها، والدعوة إلى حلها، لينقسم العالم بين مؤيد ومعارض، قبل أن تخف حدة الانقسام ويتم التوافق على أهمية إصلاح المنظمة بعدما كشف كورونا الكثير من نقاط الضعف الخطيرة التي تجعلها منظمة بلا فاعلية.. بل أكثر من ذلك فقد يكون لها دور سلبي جداً.. هذا الحديث وبسبب استمراره يكاد يتحول إلى وصمة تلتصق بمنظمة الصحة العالمية، والسؤال: هل حقاً فيروس كورونا كشف ضعف المنظمة أم إن وراء الأكمة ما وراءها؟
إذا عدّلنا قليلاً بالمثل القائل «لكل زمان دولة ورجال» إلى «لكل نظام عالمي جديد -أمم متحدة- ومنظمات دولية» قد يغدو مفهوماً لماذا يتم مهاجمة المنظمات الدولية بشكل عام وليس منظمة الصحة العالمية فقط، خصوصاً أن الهجوم كان ينطلق خلال السنوات الماضية من الولايات المتحدة نفسها التي كانت أحد القطبين الرئيسيين (مع الاتحاد السوفييتي) في تأسيس الأمم المتحدة ومنظماتها.
لقد انقلبت الولايات المتحدة على «أممها ومنظماتها» بعد أن استغلتها لعقود طويلة في خدمة أجنداتها العسكرية وأطماعها.. وليس من المنطقي هنا القول إن هذا الانقلاب حدث في عهد ترامب فقط وأنه يختص بشخصه وبسياساته الفجة والفردية والاستعلائية، بدليل أن خلفه جو بايدن بدأ ولايته على الفور بالتراجع عن كل سياسات وقرارات ترامب وفي مقدمها العودة إلى المنظمات الأممية وعلى رأسها منظمة لصحة العالمية.
لكن انقلاب ترامب كان أبعد مدى وأخطر من حصره به، لقد كان بمنزلة بالونات اختبار لنظام عالمي جديد (أو بديل) يتشكل ويريد أن يزيح الولايات المتحدة من قمة القرار العالمي.. نظام قطع شوطاً مهماً في تأسيس تكتلاته وتحالفاته ومنظماته بعيداً عن الولايات المتحدة، وحتى بعيداً عن الأمم المتحدة نفسها.
هذا النظام استطاع تحويل الأمم المتحدة ومنظماتها إلى ساحة مواجهة مع الولايات المتحدة ليهزمها في جولات عدة، ولا مبالغة في القول إن الولايات المتحدة وجدت نفسها محاصرة في العديد من المنظمات الأممية خصوصاً المنظمات الحقوقية وحتى في مجلس الأمن نفسه وإلا كيف نفسر انسحابها من عدة منظمات أممية وتجميد تمويلها لمنظمات ولجان ومجالس (أونروا على سبيل المثال).
منظمة الصحة العالمية وجدت نفسها بمواجهة مع الولايات المتحدة التي أغضبها جداً أن تسمع من المنظمة إشادة بالصين وجهودها في مكافحة فيروس كورونا ومساعدة الدول على مواجهته، وأغضبها أكثر أن ترفض المنظمة اتهام الصين بأنها منشأ كورونا.. لقد حرمتها المنظمة فرصة ذهبية لحشر الصين في زاوية الدولة المذنبة التي يتوجب على العالم مقاطعتها ومعاقبتها.. ثم جاءت مرحلة اللقاحات لتعترف المنظمة باللقاحين الصيني والروسي قبل اللقاح الأميركي.. وعليه استمرت المنظمة في دائرة الغضب الأميركي، ولا يزال لافتاً أنها لم تتخل عن مواقفها رغم كل ذلك.
اليوم مع اتساع عمليات توزيع اللقاحات والتطعيم تغيب منظمة الصحة العالمية أو بعبارة أصح تبدو مستبعدة، أو ربما هي من استبعدت نفسها مكتفية بالنصائح والتحذيرات بعدما بدا أن اللقاحات ستتحول على يد الولايات المتحدة إلى معركة حامية مع الدول التي تعتبره عدوة كالصين وروسيا، اللتين سبقتاها في اكتشاف وإنتاج وتوزيع اللقاحات ولم تعمدا إلى استغلال الدول وابتزازها مقابل منحها اللقاحات.. أكثر من ذلك فإن العديد من الدول حصلت على اللقاحين الصيني والروسي مجاناً ما جعلهما الأكثر طلباً مقابل انخفاض الطلب على اللقاح الأميركي، وعليه فإن العائدات المالية الهائلة التي كانت الولايات المتحدة تسن أسنانها للحصول عليها لم تتحقق، ولا يزال اللقاح الأميركي داخل المستودعات والمخازن.
ولكن هناك سؤال يلح بصورة دائمة: لماذا تم تحميل منظمة الصحة العالمية مسؤولية أزمة انتشار كورونا؟
لا يبدو منطقياً الجواب الذي يقول إن تحميلها المسؤولية يعود لتأخرها في إعلان حال الطوارئ العالمية وفي وصف فيروس كورونا بالجائحة، أو في رفضها تحميل الصين مسؤولية المنشأ والانتشار.
الجواب المنطقي أن الولايات المتحدة أرادت استبعاد المنظمة من دائرة الفعل العالمي أو بعبارة أدق أرادت استبعادها لتخلو لها ساحة الاتهامات، توجهها لمن تشاء، أي توظفها في حروبها التجارية والاقتصادية وحتى العسكرية، وعندما قطعت المنظمة الطريق عليها عاقبتها بالانسحاب والتجميد وحرضت حلفاءها على فعل المثل.
ولكن لماذا لم تتجاهل الولايات المتحدة منظمة الصحة العالمية وتعمد -كما تفعل دائماً- إلى تنفيذ حروبها منفردة بعيداً عن الأمم المتحدة ومنظماتها عندما لا تحصل على التصريح المطلوب منها، أي عندما تسقط إرادة الولايات المتحدة بفعل الفيتو الذي باتت تستخدمه الدول (الصين وروسيا) بصورة متكررة ضد كل قرار حرب أو مواجهة أو تصعيد أميركي..؟
يقولون إن منظمة الصحة العالمية سقطت في امتحان كورونا، لكن الأصح أن الولايات المتحدة هي التي سقطت في فرض نفوذها على العالم، ولم تجد أمامها سوى الصحة العالمية وذلك عبر كيل الاتهامات لها والدعوة إلى إصلاحها وفق أسس جديدة، ستسعى الولايات المتحدة لتفصيلها على مقاسها، لكن هذا لم ينجح، وها هي تعود عن انسحاباتها الدولية وإلى منظمة الصحة العالمية ذاتها وتوقف كل اتهاماتها السابقة لها، إلى حين طبعاً.
هل يعني هذا رضوخاً للأمر الواقع.. الجواب لا. الولايات المتحدة تستعد لمرحلة جديدة، خطط جديدة في التعامل مع نظام عالمي بديل فشلت إدارة ترامب في احتواء اتساع نفوذه وقوته، لا بل هو ازداد قوة وحضوراً عالمياً وفي جميع الملفات، فكان لا بد من إدارة جديدة ومعارك من نوع جديد بانتظار أن تبدأها إدارة بايدن.