عن التاريخ وإشكالياته.. أي معنى لوحدة الشّعور؟
إدريس هاني :
تواجهنا إشكالية تمركز زمن المؤرّخ إزاء الحدث التّاريخي، سواء ما كان وقائع منه تحققت، أو سيناريوهات منه متوقّعة، هذا في حال اعتبرنا التّوقّع في المستقبليات هو شكل آخر من التّاريخ. لا يخلو فعل التأريخ هو الآخر من فعل التّوقّع، حتى حين يتعلّق الأمر بوقائع الماضي. يجعل المؤرّخ من عصره -في حالة ما كان غير معاصر للحدث- محوراً لكل العصور، ما مضى منها وما سيأتي، والأمر نفسه يحدث فيما لو كان معاصراً للحدث، فهو يميل إلى الانتقاء، والتأويل، لأنّه لا يمكن أن يعايش -وإن عاصر- كلّ أنّات الحدث التّاريخي.
يواجهنا التّاريخ الخطّي الذي لا يؤمن بالاستثناء، غير أنّ المؤرّخ الخطّاني -الذي يؤمن بوحدة المسار التاريخي ووحدة قوانينه- لا يعيش إلّا داخل موجة ممكنة من موجات التّاريخ، إذ يمكن معاصرة أكثر من موجة في السياق نفسه. إنّ فكرة التّاريخ هنا تغدو مهمّة مستحيلة، لأنّنا في العادة، نمسك بالحدث التّاريخي من الوسط ، لأنّ فكرة التعليل تقتضي تسلسلاً يتجاوز البدايات المقرّرة، هذا فضلاً عن أنّ عملية التعليل هنا معقّدة للغاية، لأنّ الحدث التّاريخي، بالإضافة إلى أنّه لا يُقدَّم إلا كتأويل معاصر للماضي، لتعزيز وضعية تاريخية للحاضر نفسه، لا يتأثّر فقط بماضيه -ماضي الماضي- بل -يتأثّر أيضاً بسلطة الحاضر وآمال المستقبل وتوقّعاته، أي مستقبل الماضي؛ إنّ المستقبليات لن تكون هنا تعبيراً عن زمان نرسم سيناريوهاته من خلال وقائع الحاضر والماضي، بل إنّ التّوقع هنا يدخل طرفاً في صناعة التاريخ، فالقدامى أيضاً كانوا يتوقّعون، وكانوا يعملون في التّاريخ على تحقيق هذه التّوقّعات، حيث بعضها تحقق وبعضه لم يتحقق، وهنا، يبدو أنّ التّاريخ لم يعد علماً بالماضي فحسب، بل وجب اعتباره علماً بالواقع والمتوقّع.
إنّ جوهر التاريخ الخطّي قائم على هذا الطموح، على وحدة المسار، وإمكانية التنبّؤ دائماً، فالتاريخ يخضع لوحدة قوانين، والماضي يمكن قراءته في العصر ويمكن قراءة العصر في الماضي، والمستقبل هو قضية تقدم، فأمكن أن يقرأ المتخلفون مستقبلهم في المتقدمين، كما يمكن للمتقدمين قراءة تاريخهم في المتخلفين، وهذا الجوهر يمكن أن يعبر عن نفسه في التاريخ الذي يرفض التناظر ووحدة القوانين ويرفض التنبّؤ، باعتبار أنّ ما يبدو نبوءة المؤرخ الخطّاني هو فعل تاريخي عند مؤرّخ الموجات المختلفة.
هناك تحدّيان يفرضان نفسيهما على التاريخ والمؤرّخ: فكرة الثبات، ووحدة القوانين. بالنسبة للحوليات، ومع فرنان بروديل (مؤرخ فرنسي) تحديداً، نتحدث عن تاريخ ثوابت ممكنة حين يتعلق الأمر بالجغرافيا التاريخية، بالزمن القار المتعلق بالبنيات الثابتة التي تعكس انطباع الإنسان من داخل المحيط، وهو بخلاف التاريخ الاجتماعي، هذا التاريخ في نظر بروديل يخضع لحركة بطيئة، فهو يكاد يكون تاريخاً خارج الزمن. ونتساءل هنا: هل يمكن لحدث ما أن يكون خارج الزّمن، وأي معنى للزمن عند المؤرّخ؟
ليس أمام المؤرّخ سوى مهمّة احتياطية، أن يعيد كتابة التاريخ، أو بتعبير آخر، إعادة تأويل الحدث التّاريخي. غير أن هناك مفهوماً قد يساهم في تسهيل مهامّ المؤرّخ، وهو مفهوم قد يوحي بأنّه محاولة لإخضاع علم التّاريخ لعلم النّفس، ولكنني سأكون مضطراً لتهذيب المفهوم أوّلاً.
ولتفادي مفارقات المصطلح وجب الحديث هنا عن «الوحدة الشعورية» بما تعنيه من أحاسيس تجاه الحدث، وحتماً لا أقصد استبعاد اللاّشعور، لأنّه جزء أساسي لا يمكن استبعاده، بل إنّ الشعور هنا مدين للاّشعور الذي يعزز تعقيد الظاهرة التاريخية تماماً كالشعور.
إنّ المقصود من وحدة الشعور احتواء الثنائية نفسها، الشعور واللاشعور، ولعلّ هذا ما يجعل في لحظة تحليل الحدث التاريخي لا تبتعد كثيراً عن التحليل النّفسي، غير أنّ المقصود من وحدة الشعور، هو الأثر الذي تتركه الحوادث التاريخية في الإنسان، وكذلك طريقة تفاعله مع الحدث والمحيط، ففي نهاية المطاف، التاريخ هو أيضاً تاريخ انفعال الإنسان مع المحيط. إنّه وفي جملة متغيرات الحدث التاريخي، وانطلاقاً من حالة التعقيد واستحالة القبض على العلل الأولى بالمعنى الذي يؤثره التاريخ الخطّاني (linéaire).. لا شيء يبقى ثابتاً إلاّ الحالة الشعورية تجاه الحدث؛ هنا وجب التمييز بين أحاسيس الكائن تجاه المحيط الطبيعي ذي البنيات القارة، وبين مغزى ما يسمى وحدة الشعور تجاه الحدث التاريخي نفسه، أي الوضعية الشعورية تجاه ما يحدث وما يتغير، ومن هذا الشعور المشترك، يمكننا استيعاب ما فات من تلك الأنات التي لا يمكن الوقوف عليها إلاّ في خبرات معاصرة للمؤرّخ؛ هنا يبدو المؤرخ الحقيقي هو من يقرأ الحدث التاريخي ليس بناء على قياس ينطلق من تناظر الوقائع من الناحية المورفولوجية (علم التشكل في علم الأحياء) بل بناء على قياس مبني على وحدة الشعور، على استيعاب للأنات المُعاشة، والتي لا يمكن الوقوف عليها إبّان الحدث التاريخي، لأنّنا في كل العملية التاريخية، لا نقف على أنات متقطّعة.
ليس الحديث عن الوحدة الشعورية في قراءة التّاريخ هي هنا شكل من الأُنوسة (ومثلها الإناسة، علم مختص بدراسة الإنسان) فالتاريخ الذي نقصده هو أكثر تعقيداً من فعل التّأنيس الأيديولوجي. لا الأنوسة تنفعنا هنا ولا الإناسة، وهذا ما أدى إلى دعوة البعض إلى أن تقتفي الإناسة طريقة التاريخ، حيث كانت أكثر صرامة في نقد الوثيقة واستحضار الزّمن.
إنّ وحدة الشعور هي الشيء الوحيد الذي يتكرّر، إنّنا إزاء كل حدث تاريخي، ننطوي على الشعور ذاته، ونخضع للآثار ذاتها، ونواجه التداعيات بالتوقعات ذاتها. نحن مع وحدة الشعور نمسك بالوحدة الموضوعية للتاريخ، هذه الوحدة توجد فينا ، وهي التي تخلق في تداعياتها ما يمكن أن نعتبره التاريخ الاجتماعي. ففي هذا المحيط الطبيعي الموصوف بالثبات، نقيم علاقات شعورية بيننا، ونخضع لتداعيات هذا الشعور الجماعي الذي لا يتوقّف، بل هو شعور جمعي متدفق ومتحرّك، وهو الذي يشكّل المتغير في معادلة الزمن.
لا يوجد شيء خارج الزمن، فحركة الزمن خارج الشعور هي حركة فارغة؛ ومن هنا، نعتبر أنّ تاريخاً ملتبساً هو نابع من غياب الفواصل والأنات الصغرى للحدث، كمكوّنات للحدث وتداعياته، وهي الفواصل والأنات التي لا يمكن استحضارها إلاّ عن طريق الوحدة الشعورية التي تتيح لنا معايشة الحدث في سياق شعورنا الثابت حيال الظاهرات.
يفرض هذا المنهج تفادي كلّ حالات الاستثناء المفتعلة، والتي تجعل التّاريخ حالة موضوعية مغشوشة، إذ كلّما أخضعنا الحدث التاريخي لوحدة الشعور، كلما اقتربنا من الموضوعية، وكلما استبعدناه من وحدة الشعور كلما اقتربنا من الذّاتية، إنها وضعية مفارقة، إذا لم نستحضر البعد الموضوعي لوحدة الشعور تلك، فحين نتجاوز هذه الحقيقة، فإننا سنلجأ إلى إخضاع التاريخ لأقيسة خاطئة، سنبعده من وحدة الشعور، ولكننا سنضعه في مفرق الأهواء. لقد ظل إحساس الإنسان بالظلم و العدالة، بالرفاهية والفقر، بالانتصار و الهزيمة، هو نفسه.
حاولت الأسطورة أن تجيب عن هذه الإشكالية بطريقتها.. أعادت صياغة الحدث التاريخي في شروط أخرى، يلعب فيها المخيال دوراً كبيراً. يتيح المخيال فرصة لوحدة الشعور تلك، ما يجعل الأسطورة أغنى من التاريخ نفسه. ومع أنّ عملية التاريخ نفسها لا تخرج عن شروط المخيال، إلاّ أنّها في استبعاد وتجاهل الوحدة الشعورية، تضع نفسها خارج التاريخ والأسطورة، أي الابتعاد عن الموضوعية والخيال معاً. تأويل الأسطورة لمّا كان مهمّة الإناسي، استطاع أن يتجاوز كل التجاهل الذي وقع فيه التاريخ، ولكن الإناسي استطاع أن يستخرج المعنى والتاريخ مرة أخرى من ثنايا الرمزي والأسطوري، ولكن سرعان ما أصبحنا ندعو إلى فكاك بين التاريخ والإناسة، كأنّنا لم نستوعب حتى الآن معضلة الوحدة الشعورية.
يمكن لوحدة الشعور أن تضعنا في تكامل بين التاريخ والخيال على أساس تكامل المهمتين في خدمة الحدث. فالحدث التاريخي لا ينفكّ عن حالته الشعورية، وليس غير وحدة الشعور تمكننا من إعادة بناء الحدث وتشخيصه، لأنّ الشيء الوحيد المتعاصر دائماً هو الشعور.
كاتب من المغرب