في روايتها (تِمْ) .. كولين مكلو تنصح بالحب كانتماء لإتمام كل نقص إنساني
(تِمْ) بكسرِ التاء، وتسكين الميم؛ بهذين الحرفين لاسم علم مذكر، تكتفي الروائية الاسترالية كولين مكلو (1937 – 2015) بالعنوان لروايتها الصادرة سنة 1974، والتي أصدرتها مؤخراً مُعربة الهيئة العامة السورية للكتاب – وزارة الثقافة.. وإذا كانت (تِم) أول رواية لكولين مكلو؛ فهي أيضاً أول ترجمة لعمل أدبي للسورية ياسمين حواط..
وهنا نذكر أن للروائية مكلو روايتين أخريين هما (طيور الشوق – سنة 1977، وسيدات ميسالونجي – سنة 1987)، ما يُشير إلى أن نتاج هذه الروائية كان أن أنجزته شبه دفعةٍ واحدة، وفي زمنٍ لا يتعدى العقد من السنين.. غير أنّ (تِم)، وهو اسم لأهم، أو لإحدى الشخصيات في الرواية، تُكرّس كولين خلال سردها لأحداثها؛ مهنتها كطبيبة مُتخصصة في الأمراض العصبية، اشتغلت لسنوات طويلة في المشافي البريطانية والاسترالية.. ذلك أن هذه الرواية تدخل في مجال الكتابات النفسية، وإذا ما سلّمنا أنّ كل إنسان في هذا العالم، وحتى كل كائن فيه على اختلاف أشكال وأنواع الكائنات لديه احتاجاته التي تُشكّلُ له ما يُشبه الإعاقة، غير أن ثمة فئة من الناس لديها (احتياجات خاصة)..
وفي (تِم) ثمة سرد في تفاصيل كثيرة لحكاية شاب مُتخلف عقلياً، يدخل في عقده العشرين لأبوين عجوزين أنجباه عندما كانا في أربعينياتهما السابقة، ولديه شقيقة أيضاً، وفي المقابل ثمة امرأة أربعينية، عاشت حياتها فيما يُشبه “رهبنة المزمنة” من دون أن تقصدها، وإنما ظروف حياتها فرضت عليها حياة قاسية، عاشت خلالها تقشفاً عاطفياً، فكان أن هربت السنوات من بين أصابعها دون أن تنتبه إلى ذلك كما الرمل، حتى التقت (تم) الذي فجر كل عواطفها دفعة واحدة .. ورغم أهمية شخصية (ميري هورتون) المهووسة بالترتيب وبعادات أقرب إلى المتلازمات المرضية، غير أن الكاتبة أزاحت اسمها من العنوان، مع إنّ الرواية تُذكرنا بالثنائيات العاطفية على مدى الأعمال الروائية والدرامية والمسرحية كـ (روميو وجولييت) وغيرها..
بمعنى أن شخصيتي الرواية تعيشان (احتياجات خاصة) كلّ منهما على قدر كرم الحياة معه، وشحها.. وهو الأمر الذي جعلهما يعيشان (نقصاً) في المشاعر الإنسانية قد يبدو مختلفاً في البداية، لكن مع الإيغال في التفاصيل سنجدهما متشابهين، ولاسيما في الشح العاطفي الذي يعيشانه، وهو ما تُفصّل فيه الرواية بكرمٍ وصفي باذخ، سواء بوصف جوانيات الأشخاص، تلك الجوانيات التي تسردها على إيقاع وصف خارجي للمكان، وبما يُحيط بما يجيش بدواخل الشخصيات.. وكيف للحب أن يُطلق روحاً حبيسة لامرأة، من حياة روتينية مُقشفة لا طموحات فيها، لتغدو روح شابة وارفة بالعشق، ومن ثم كيف للحب أن يُكمل ذلك النقص في دماغ شاب، كان الظن إن ذلك الدماغ بقي منسياً فيما الجسد ينمو بلا هوادة، ومن ثم ليحصل الارتباك.. الجسد جسد رجل، فيما الدماغ لطفل لم يبلغ بعد.. الحب سيعيد له التوازن صحيح ليس ليصبح رجلاً كما كل الرجال، ولكنه سيُصبح رجلاً ولا كلّ الرجال، الحب الذي استطاع أن يجمع (المجزوءات) لتمُسي تلك الكائنات مكتملة بالحب، تماماً كمن يضع أطرافاً بديلة لأيادٍ وأقدام مبتورة، ثم ليصير التماهي بين ما كان يُظن إنها متناقضات..
ذلك ما تُحاول أن تبنيه كولين مكلو في عمارتها الروائية الباذخة والمفعمة بالحب، حب من نوع خاص، أطلقت عليه (ميري) بطلة الرواية (الانتماء)، بما يعني أن يُمسي الحبيب وطناً فسيحاً لكل ما تجيشُ به أنفسنا من عواطف، ومن ثم لا معنى للحياة من دون وطن ننتمي إليه، هكذا سيموت والد (تم) العجوز، ويذبل كما الورود العطشى عندما فقد زوجته.. حب الانتماء؛ هو ذلك الحب الذي ستتواطأ كل عناصر الطبيعة من بحر ونهر وجبل وحديقة وبستان ونباتات و ورود؛ لتُشكل جميعها جوقة موسيقية لا نشاز أبداً في عزفها، بل قل سيمفونية عذبة يعزف الجميع ألحانه وموسيقاه لتكتمل وتتوازن، موسيقا على إيقاع توالي الليالي والنهارات، ومطالع الصباحات؛ طاردةً كل النشازات إلى الزوايا القصية ما استطاعت إلى ذلك سبيلا..
والرواية (فرضية طبية) وفرتّها الهيئة العامة السورية للكتاب للإطلاع على أدبٍ مجهول تقريباً للقارئ العربي، وهو أدب استراليا، وذلك بترجمة رائعة لياسمين حواط، وذلك بالتقاطها لحساسية اللغة الأم، من هنا لم تكن ثمة مُشكلة في ذكر مناطق باسمائها في العاصمة الاسترالية – سدني – وما حولها من مناطق وضواحٍ، تجري فيها أحداث الرواية، أو ما يُطلق عليه في النقد (المكان في الرواية) رغم جهل القارئ بتفاصيلها، فقد وفرت الحالة الوصفية للمكان صورة بصرية للقارئ البعيد، وكأنه أمام شاشة سينمائية، كما وفرت أن يستحضر بذهنه مشابهات لتلك الأمكنة، أو معادلات لها حيث يعيش، ومن ثم لتحضر التفاصيل الحميمة للمكان والأحداث، وحتى الأزمنة من ليالٍ ومساءات وصباحات بكل حرارتها وطازجتها..
حتى المصطلحات الطبية التي استخدمتها الروائية في سردها لم تُشكل أي تغريب في قراءة النص على أنه نص إبداعي، وليس درس في الإرشاد الصحي، وذلك بأن تماهت المصطلحات مع تراكيب النص، وكأنها وضعت خلسةً، بل جاءت كمن يضع لك باقة أزهار على عتبة شباكك قبل أن تفتح النوافذ بقليل.. هنا تأتي اللغة كحامل لهذا الحب، حيث تسرد الكاتبة نصها، وهدفها تقديم متعة، وهي غاية على ما تبدو هنا، أن تقدم المتعة واللذة والدهشة في النص، فالعشق في النص الإبداعي، وأياً كان نوعه – شعراً، قصة، رواية – يتأتى من الإحتكاك بين مؤنث هذا النص الإبداعي ومذكره.
فـ(الآنسة العجوز) كما كان يطلق عليها أصدقاؤها في المؤسسة التي تعمل فيها – وهي لم تكن تنزعج أبداً من هذا الوصف – الآنسة ذات الملامح التي بالكاد تتغير، وهي دائماً كعادتها تثبت شعرها الطويل، والكثيف في كعكته المُعتادة في مؤخرة نقرتها، وتغرس دبوسين إضافيين، وبعدها تنظر إلى صورتها المُنعكسة في المرآة دون فرحٍ أو حزن، ولا حتى بعض الاهتمام، وكانت ميري هورتون قد أصبحت وحيدة، وهي في الرابعة عشرة من عمرها، توفر أكثر مما تصرف إلى أن أصبحت في سن أربع عشرة سنة كانت تملك منزلاً في إحدى ضواحي سيدني، وسيارة باهظة الثمن، غير أن البيت كان بلونٍ واحد طوال الوقت، هو الرمادي تقريباً، وفي سن الثالثة والأربعين؛ لم يكن لديها أي صديق باستثناء الخمسمئة كتاب، ومئات الأسطوانات… بهذا التوصيف تُقدم كولين مكلو شخصيتها الرئيسة في الرواية، بهذه الحالة من المنتصف في كل الأمور لدرجة الرمادي الواحد، هذا الرمادي الذي هو تماهي الأبيض والأسود، والصورة التشكيلية المتقشفة اللون لدرجة (الغرافيك) التي تلونها الروائية؛ هي المُعادل للحياة أو ما يُشبه الحياة التي تحياها الشخصية، وشخصية بهذا التقشف اللوني، من يستطيع أن يزيد، أو يُضيف في ألوانها؛ وهي التي كانت كلما قابلت رجلاً جذاباً تجاهلتّه، وإن بدا طفلاً يشقُّ طريقاً إلى قلبها بضحكته؛ حرصت ألا تراه، فقد تجنبت على الدوام الجانب الجسدي من طبيعتها، كما لو كانت تتجنب مرضاً مُعدياً، وأقفلت عليه بعد أن وضعتّه في زاوية مُظلمة من عقلها، ورفضت الاعتراف بوجوده..
وستكون المُفارقة، أن من سيلوّن حياة هذه الشخصية، هو كائن يعيش الحياة بربع دماغ على الأكثر؛ إنه (تِم) المقدود من مرمر، الذي جعلت ابتسامته لها تشهق لأول مرة في حياتها.. (تم) المولود لأبوين، مع أخت فائقة الذكاء، وكان حلم الوالدين أن يوزع الله العقل بالتساوي بينهما.. (تم) الذي ستتخذه في البداية بستانياً لحديقتها، وما إن ينوّع في أزهارها، حتى كاد أن يُمحي الرمادي من غرف بيتها من الداخل، فالشاب المولع بالأحمر؛ سيُضيف هذا اللون، وألوان أخرى إلى قطع كثيرة من أثاث البيت ليطرد كل البرودة من داخله، هذه الألوان التي تجعل كل كائن منهما يُمسي منتميّاً للآخر بحيث لا معنى للحياة بغياب أيّاً منهما، فقد خرج كلٌّ من هما من قوقعته إلى (نادي العرق البشري).. وبدل أن كان كل منهما يعيش لذة فارغة، أصبحا يعيشان رقة المشاعر ودفئها.. إنه حب الانتماء الذي يجعل للحياة معنى!! لتكتمل اللوحة الحياتية تماماً كالفراشة والضوء الحارق.. هي العثة التي تتمتع بالإدراك وكرامة العيش، وهو الضوء يملأ عالمها بنار متوهجة، وهي تُضحي بنفسها في لهب سحره، وهو المُنتمي إلى كل هذا العالم من الضوء..