«الأنسنة» بين الخطاب الشعري والوظيفة الإمبريالية

لا بدّ من الإيتيمولوجيا للاستئناس بالمفاهيم، وليس لإعادة تشكيلها بعد أنّ تعدّلت بقوّة التّداول (الإيتيمولوجيا: علم أصول الكلمات). في هذا الإطار لن تكون الإيتيمولوجيا ضرباً من المغالطة. وسنجدنا أيضاً في قلب مغالطات تستند إلى لعبة الالتفاف على شرائط اللسان. وتلعب أحيانا الترجمة دوراً، لعله الأسوأ، في مغالطات اللّسان، فالمعنى الآتي من الأصل لا يبلغ المتلقي في المجال المُستَقْبِل، إلاّ بعد تعديل يخضع لشروط لسانية جديدة. ليس كل شيء يصل بين متخاطبين من اللسان نفسه، فكيف إذا تعلّق الأمر بلسانين يُلخّصان عالمين من الرموز والثقافات ومن أنين لغوي مختلف.

يثير انتباهي مفهوم الأنسنة الذي نتسامح في استعماله بلا ضوابط، وبإنشاء لا يفي بالمضمون، والذي يعتبر معادلاً عربياً لمفهوم (humanism) بينما كان أحرى، تفادياً للالتباس، أن يسمّى الإنسانوية أو التيار الإنساني أو المذهب الإنساني بينما فعل (humanisation) يناسبه معادل عربي هو التّأنيس أو بتعبير آخر أولي -يأخذ بحقيقة المضمون الفلسفي للعبارة- إعادة اكتشاف البعد الإنساني في الأشياء، ولا أجد أفضل من عبارة: «خطاب الأُنوسة».

كل هذا الاحتياط حتى لا نقع في التباس، يثيره مفهوم الأنسنة الذي هو أقرب إلى مفهوم (anthropomorphism). فهذا الأخير يعني خلع طبائع الإنسان على ما ليس من جنسه، أي خلع صفات الإنسان على الطبيعة، على الحيوان، على النبات. لا نتحدّث هنا عن الاستعارة، بل عن اعتقاد يُضفي خصائص إنسانية على ما ليس إنسانيّاً بالطبع. وهذا كما ترى معاكس في المضمون والشّكل لمعنى «هيومانيزم».

إنّ أنسنة التراث أو أنسنة أي خطاب بالتعبير القديم لمحمد أركون (مفكر جزائري) والذي اشتغل عليه في أطروحة منجزة حول «نزعة الأنسنة في الفكرالعربي: جيل مسكويه والتوحيدي» إنّما هو بحث عن البعد الأنوسي للخطاب التراثي وليس الأنسنة التي تعني المعنى الذي ذكرنا من فعل «الأنثربومورفيزم». ولا يمكن اعتبار «كليلة ودمنة» مثالاً عن هذا النوع من الأنسنة، بل هو ضرب من الاستعارة المعتبرة في المقام.

ولا غرو أنّ التراث هو من هذه الناحية إنساني، وما كان إنسانيّاً لا يتأنسن، فليست الأنسنة بالمعنى الخاطئ للعبارة صناعة، ذلك لأنّ ما كان إنسانياً في التاريخ أو في الحاضر أو في المستقبل يحمل وجهين، لأنّ الإنسانية ليست خالصة في السلوك الحضاري للإنسان. وينطوي مفهوم الأنسنة بالمعنى الدارج على عديد من المُغالطات، ليس آخرها، المغالطة الإيتيمولوجية المذكورة. البحث عن الإنسان الكامل في تجربة الجماعة، مغالطة لإخفاء البعد الواقعي لإنسان متعدد الإرادات والسياقات. فالبحث عما هو إنساني في التراث، يجب أن يقف على وجوه الإنسانية المتجلية في الجميل والقبيح، في السلم والحرب.

ويخلط دعاة الأنسنة المزيفة بين البحث في كمالات النّفس البشرية، وبين الإنسانية، لاسيما حين يضعون معايير تلفيقية لما يسمونه الأنسنة، في المعايير القيمية الحديثة، متجاهلين أنّ للعصر نصيباً من الوجه القبيح، حيث لم يعد السؤال يدور حول جدلية التقدم والتأخر، بل باتت له جدلية زائفة بين الأنسنة وعدمها، نحاكم الماضي بالحاضر ليس على أسس حضارية معقدة بل على أساس خطاب وجداني منفلت من عقال النّص التأسيسي لمفهوم الإنسانية وفلسفتها، وحيث لا يوجد في كل عصر سوى تعبيرات تناقضية لإنسانية لا زالت تتصرّف وفق مبدأ القوة.

نعم، إنّ الإنسانية التي فكّر فيها فلاسفة الحكمة الخالدة منذ مسكويه، منحت الإنسانية صفة الاكتساب بناء على كمالات توفّرها القيم. وهذا أمر متعارف لدى فلاسفة الأخلاق في الإسلام الوسيط والحديث على السواء. لكن ما يرمي إليه أركون واتبعه في ذلك مقلّدوه، هو مختلف تماماً، حيث كان اهتمام أركون بالجوانب الإنسانية في التراث والتي تتعلق بفكرة التسامح تحديداً، أي الخطاب القائم على قيم كونية وإنسانية تتجاوز المعايير الخاصة داخل الثقافة المختلفة والأديان المتنوعة. وجاءت تلك القراءة في سياق ما سماه بـ«الإسلاميات التطبيقية» قياساً على الأنثربولوجيا التطبيقية لروجيه باستيد (عالم اجتماع وإثنولوجيا فرنسي) للتخفيف من ثقل المقاربات الفيلولوجية (فقه اللغة) والتاريخانية للتراث أو لنقل التقليد. كان همّ أركون اكتشاف مساحات من الفكر الإنساني بأبعاده الإنسانية كما ذكرنا، أي القبض على خطاب في تراث العصر الوسيط الإسلامي لا يستجيب للدّين، بل كان أيضاً يبحث عن الميثولوجي والخيالي، وهي طريقة لطالما حجبت جيوباً أخرى للتراث، من حيث المناهج التي تقع في إهمال الكثير من تلك الوجوه، على الرغم من أن أركون آخذ على المقاربات السابقة له للتراث بالوقوع في عدد من الإهمالات، لكنه لم يقف عند دور المناهج نفسها في إهمال العديد من الظواهر داخل التراث. وحينما نغضي عن دور التاريخانية والبعد الفيلولوجي بطريقة قطعية، فسنجد أنفسنا أمام شكل آخر من الاختزال غير الآبه للسياقات التاريخية وشروط قيام المعنى ونشأة المفاهيم.

لقد استُعمل مفهوم الأنسنة استعمالاً فاحشاً في الثقافة العربية المعاصرة، ليس فقط نتيجة ابتسارات قضّت المفهوم من داخل الأسس الفلسفية، في سياق تراجع ثقافي مهول وانهيار ملكات التحقيق، بل لأنّه وُظّف توظيفاً مغالطاً ضدّ جملة من القضايا التي تتعلّق بخيارات الأمم وسياداتها. خطاب يخضع أيضاً لما يسمى بالمغالطة المقولية، تلك التي لا تراعي التراتبية القاطيغورياسية (مقولات أرسطو) في تدبير المعنى، بل تضع المفهوم في السياق الخطأ، كأنّ نتحدّث عن التسامح في سياق محكوم بحسابات سياسية، أو نتحدّث عن «الأنسنة» في سياق مناهض للحق في مقاومة الاستعمار، أو نوغل في خطاب الأنسنة في سياق رجعي حافل بالمزايدات.

حين يتيه المفهوم أو يخضع لمغالطة مقولية بهذا المعنى، يصبح أداة في مخططات تتجاوز الحاجة المعرفية إلى الأغراض السياسية الوظيفية للمفهوم. توظّف الإمبريالية وعبر وسائل الميديا خطاب «الأنسنة» في سياق تصفية حساب أو في سياق الحرب، واختراق السيادة، وتجنّد جيوشاً مجهزة لتحويل الخطاب إلى خطاب إدانة ينتهي إلى محاكمة دولية تترتب عليها آثار أجنبية على الجرم الإنساني لتنتهي إلى احتلال أراضي أو تقسيمها، وهي هدف إمبريالي محض.

يبدأ الخطاب بريئاً في صالونات مجهزة بالأنوار والمغريات وتبادل علامات “الإيتيكيت”، وأيضاً استغلال الأمراض النفسية في صناعة النخب المغشوشة وتمكينها من آليات المُخاطبة: سلطة الكلام وسلطة الحضور، ولكن الأمر ينتهي إلى إدانة، وإلى واقع حربي وخراب لعمران.

ليست المفاهيم، لا سيما في نطاق سلطة التداول، بريئة. وحده التحقيق الفلسفي غير خاضع لمغالطات مقيّدة بمناهج البحث العلمي المكرّس لسلطة المناهج على قمع الاكتشاف والتحرر من المفاهيم الحاجبة والمتحكمة في اختيارات العقل، بوصف العقل محكوم بالإرادة، والإرادة مقيدة بالبارديغم (النموذج أو المثل) وبالتالي نخضع لمغالطة المنهج، بدل اكتشاف المنهج وتحقيق القدر الكافي من العبر- مناهجية، لكبح جماح ألاعيب إعاقة العقل خوفاً من تحطيم مؤسسة المفاهيم الزائفة.

لننظر في خطاب ما يُعرف بالأنسنة، سنجد أنه خطاب يخضع لتوتّر يزيد وينقص بحسب توتر المصالح الإمبريالية، وسنجد أنّ خطاب الأنسنة نفسه يجد مراكزه في بيئات قتل الإنسان، وسنجد من يمثّل هذا الخطاب من حيث المصالح وركوب الأمواج فضلاً عن الاختلالات السيكولوجية التي تفسّر عادة، اختيارات مغالطة، قوامها تصفية الحسابات البارانويانية (جنون الارتياب) بخطاب إنسانوي مزيف، كمن يذبح بخيط ذهبي رفيع.

سنشاهد تصاعداً لخطاب «الأنسنة» في معركة الغرب القادمة مع موسكو وبكين، حرب ذات أهداف مالية وسيادية، لكن ستستعمل فيها ميديا التجييش بناء على خطاب «الأنسنة». بدأنا نلاحظ طبيعة الخطاب الإعلامي الموجّه وأساليبه في تغليط الرأي العام، في “ثورات ملوّنة” جديدة، في تحريك الساحات والتحكم بخطاب “ثورجي” غير آبه بتعقيدات الجيوستراتيجيا القائمة، “ثورات” متصالحة، كالـ«كونتراس» مع الإمبريالية، وهي الظاهرة التي تناقض «الإنسانية» في الصميم.

عدوّ خطاب الأنسنة هو التفكيك، هو التأويل، هو الوعي الجيوستراتيجي بالوظائف المفهومية.. هو الذهاب إلى “العبر- مناهجية” لتقويض لعبة المناهج وتحكمها في مصير المعنى والإنسان.. هو الانطلاق من تعقيدية إدغار موران (فيلسوف فرنسي) للواقع وتقويض مغالطة الاختزال. لم تعد الإنسانية تواجه حالة مسوخية إلاّ من خلال مسوخية خطاب الأنسنة نفسه، الذي تحوّل من خطاب الأنتربومورفيزم (anthropomorphism) إنسانية ما ليس إنساناً إلى حالة الميتامورفوز(metamorphose) أي استنطاق ما ليس إنساناً في الإنسان. فالبشرية تخضع اليوم لمؤامرة على الذهن البشري تتجلّى في التآمر على المفاهيم الكبرى التي أنتجها سادة الفكر، ليُخضعها مرتزقة وعملاء الثقافة الإمبريالية والرجعية لمُغالطة بروكروست(procruste) .. (القولبة الجبرية).

(بروكروست: شخصية من المثولوجيا اليونانية، حيث كان حداداً وقاطع طريق يهاجم الناس ويقوم بمط اجسادهم أو قطع أرجلهم لتتانسب أطوال اجسامهم مع سرير حديدي لديه وكان مهووساً به. يطلق لفظ البروكروستية أي نزعة إلى «فرض قوالب» على الاشياء (الاشخاص أو الافكار..) أو لي الحقائق أو تشويه المعطيات لكي تتناسب قسراً مع مخطط ذهني مسبق).

كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار