ثلاثون سنة ومانزال نطرحُ مُصطلحاً جلفاً
في كل فنون الإبداع؛ تمّ الانتباه لتخصيص حيزٍ من هذه الفنون، لتوجيهها للأطفال، ومن نافل القول؛ إن مثل هذه الإبداعات تكون بأدوات مختلفة تماماً عن الموجهة للكبار.. وذلك في مراحل الطفولة الثلاثة، ما قبل المدرسة، وخلال العشر سنوات الأولى من المدرسة، ومن ثم مرحلة اليافعين التي تمتد حتى عمر الثمانية عشرة.. حيث لكلِّ مرحلةٍ من هذه المراحل خصوصيتها، التي يجب الانتباه إليها بمنتهى الحذر، منها مثلاً التركيز على الصورة في مرحلة ما قبل المدرسة، بمعنى لا يُفترض أن يُقدّم الإبداع الطفلي (دوغما)، وإنما – كما أسلفنا – لابدّ من مُراعاة خصوصية كل مرحلة عمرية..
وعلى هذا الأساس؛ كان ثمة قصة موجهة للأطفال، وقصيدة للأطفال، وحتى رواية، وإن كُرّس النوع الأخير لليافعين بالدرجة الأولى، كما تمّ تخصيص فنون تشكيلية خاصة للأطفال، وثمة نوع مزج بين العمل التشكيلي والقصة، وقد اشتهرت مجلات عريقة في تقديم القصص وحتى القصائد المصورة للأطفال، وحتى في الصحافة؛ تمّ تخصيص إصدارات صحفية للأطفال، وإلى اليوم تصدر وزارة الثقافة السورية مجلتين للأطفال (شامة، وأسامة)، وسلسلة الأعلام لليافعين، وكذلك ثمة اليوم مسرح متنوّع مُخصص للأطفال، وكذلك برامج الأطفال التلفزيوينة المتنوعة من مسلسلات وغيرها، وهناك قنوات تلفزيونية مخصصة بكامل بثها للأطفال..
مساران للكتابة
وفي النتاج الطفلي الإبداعي؛ كان دائماً هناك مساران؛ الأول: أن يقوم المبدع، وأياً كان توجهه الإبداعي بتقديم ما ينتجه للأطفال، بمعنى من يُقدّم الإبداع هو (رجل\امرأة) كبيران، والبعض من هؤلاء تخصص بهذا الاتجاه، وأوقف كامل نتاجه الإبداعي للأطفال، ولم يُقدّم سوى ذلك..
المسار الثاني: عندما تمَّ توفير المناخ والفرصة للأطفال لينتجوا هم لأنفسهم القصة والشعر والمسرح والبرامج التلفزيونية، وإن جاء بعضها بتوجيه الكبار ورعايتهم، وفي المقارنة بين النتاجين، أي ما قدمه الكبار للصغار، وما قدمه الصغار لأنفسهم، فإنّ الكفة الجيدة ترجح لصالح ما قدمه الأطفال لأنفسهم، والحديث يطول في تفسير هذه الظاهرة وشرحها، ربما نعود إليها في مقالٍ قادم..
دعوة مُبكرة
ومناسبة هذه المقدمة، ما اجتهد به بعض الأصدقاء مؤخراً بالدعوة لكتابة (قصة قصيرة جداً) موجهة للأطفال، فهل ينجح ممن كتب القصة القصيرة جداً، أن يكتب ما يُعادلها للأطفال؟؟!! وهل جنس القصة القصيرة جداً؛ ينجح كنوع عُرف بالتكثيف لدرجة التضحية بالكثير من معالم القصة القصيرة، في أن نتوجه به إلى الأطفال، وهو القائم على تقنيات: الإخفاء، الإضمار، الحذف، الإيحاء، الإنزياح، الرمز.. وغيرها من التقنيات البلاغية التي تُستثمر في بناء نص القصة القصيرة جداً؟؟!! والسؤال: هل نجح القاصون أولاً في تقديم نص القصة القصيرة جداً كما يجب من نضج، ومن ثمّ استقرت، ولم يختلفوا إلى اليوم في تسميتها، وحتى في استقلالها كنوع أدبي قائم بذاته، حتى نُقدمها ناضجة للمراحل العمرية للأطفال؟؟!!
قبل أن أجيب على بعض هذه الأسئلة، سأستأنث برأين لخبيرين في إنشاء نص القصة القصيرة جداً، الأول: للكاتب العراقي عبد الحسين العبيدي، والثاني للكاتب السوري محمد ياسين صبيح..
السباق القائم
يقول العبيدي: أثير بالفترة الأخيرة، على صفحات التواصل الاجتماعي، مقترحاً يدعو الى كتابة (ق. ق. ج) للأطفال. لاشك إن هذه الشريحة شديدة الأهمية في حسابات التطور المستقبلي للشعوب، ولكن هذا الطرح بدا لي متعجلاً، كما لو إن هناك سباقاً قائماً، وذلك للكثير من المبررات، يُعددها بما يلي:
١- إن المقترح لم يراع الخصائص الفنية التي ألزمها الدرس النقدي في كتابة الـ(ق. ق. ج) ومنها التكثيف والانزياح….
٢- إن النقد مايزال غير مستقراً فيما إذا كانت الـ(ق. ق. ج) جنساً مستحدثاً، أم هي مجرد نوع سردي ذو وشائج متينة مع القصة القصيرة المُتعارف عليها، ورغم انتشارها مازالت هناك خشية من أن تجهض وتكون مجرد نشاطاً فردياً تجريبياً..
٣- إن قصص الأطفال ذات اشتراطات فنية مُغايرة تعتمد الوضوح والسهولة والاستفاضة لإيصال درسها التربوي والتعليمي..
٤- إن قصص الأطفال بأفضل حالاتها تستهدف شريحة محدودة جداً من الأطفال العرب بحكم الواقع السياسي والاجتماعي، وما خلفه هذا الواقع من فقر وجهل وأميّة..
٥- إن شريحة الأطفال تتفرع الى فئات متعددة، وكل فئة لها خصائصها البايلوجية و النفسية.
٦- يبدو لي إن المقترح أخذ بعين الاعتبار، وبحسن نية متسرعة الحجم القصير جداً لـ(ق. ق. ج)، وبنى عليه اقتراحه، دون أن يلمح الصعوبات الكثيرة والشديدة في كتابة هذا الجنس الإبداعي.
٧- إن الإنسياق وراء الأفكار يجب أن يكون بدراية وتفكر، وفي رأي أن مقترح كتابة القصة القصيرة جداً للأطفال؛ يُنتج خليطاً غير متجانس، وكما يقول المثل الشعبي العراقي ( يُضيّع المشيتين) .. إذاً بهذه السبعة بنود، يُجيب العبيدي، وكأنه يقول بـ(اللاءات السبع)، التي تؤكد إن جنس القصة القصيرة جداً، لا يُناسب ذهنية الأطفال الصورية، وحتى إن هذا الجنس نفسه، لم يصبح ناضجاً كما يجب لنتوجه به للأطفال اليوم.. لكن على ما يبدو إنّ للدكتور محمد ياسين صبيح رأي آخر أو يختلف بعض الشيء عن رأي العبيدي في هذا التوجه، وهو الذي يُشرف على رابطة القصة القصيرة جداً في سورية، وله في كتابتها الباع الطويلة؟؟
دعوة مشروعة
يُجيب د. صبيح: نعلم أن القصة القصيرة جداً هي جنس أدبي جديد، ويكتبه الآن الكثير من الكتّاب بقدرات وأساليب مختلفة، وأيضاً بتقنيات مختلفة، ولا شك أن مستوى إتقان كتابتها يختلف كثيراً من كاتب لأخر، وأن البعض لا يكتبونها كما يجب، وحول دعوة البعض لكتابة (ق. ق. ج) موجهة للطفل، أحبُّ أن أبين التالي:
– لقد ظهرت الرواية كجنس أدبي موجه للكبار، وكانت بداياتها ومازالت تتضمن الكثير من المقولات الفلسفية والفكرية والإيحاءات الصعبة، فكافكا كتب المسخ وماركيز كتب مئة عام من العزلة، وكذلك دوستويفسكي وتولستوي، وهذه لم تكن سهلة أبداً، وبالرغم من ذلك ظهرت بعد ذلك روايات موجهة للفتيان وللأطفال، واستطاع كتّاب هذه الروايات أن يجدوا الأساليب التي تناسب الطفل، وكذلك الأفكار.
– القصة القصيرة أيضاً كانت أول الكتابات فيها موجهة للكبار بالتأكيد، وبعض كتابات غوغول وتشيخوف وموباسان، ومن ثم يوسف إدريس وزكريا تامر وغيرهم، لم تكن سهلة الفهم والتأويل، بل كانت غنية بالمقولات الفلسفية والتأويلات المتعددة، ولكن كل ذلك لم يمنع بعد ذلك، من أن يتجه بعض الكتّاب إلى الكتابة للطفل، وبأسلوب خاص يستطيع الأطفال فهمه، ونجحوا بذلك.
– في الشعر أيضاً، وكلنا يعرف صعوبة فهم الشعر ما قبل الإسلام وما تلاه إلى المتنبي والى المعري إلى العصر الحالي، ولكن استطاع الكثير من الكتاب أن يخترق هذه الرؤية ويكتب شعراً للأطفال، وكلنا يعرف سليمان العيسى ومجموعاته الموجهة للطفل.
– هنا نصل إلى القصة القصيرة جداً- نعلم جميعاً صعوبة صياغة (ق. ق. ج) ناجحة، تتضمن عناصرها وتقدم فكرة ومشهدية مميزة، ونعلم أن المباشرة قد تفقدها كما كل الأجناس الأدبية الأخرى بعضاً من مستواها الإبداعي، ولكن بالآخر لا بد من أن يكون للطفل حيزاً فيها كما في كل الأجناس الأدبية، ولكن بشروط وعناصر يمكن الاشتغال عليها، ومقدرة الكاتب تتجلى في قدرته على إيجاد أسلوبه وفكرته، وهنا ندخل صلب الموضوع، فالقصة القصيرة جداً الموجهة للطفل هي فكرة، والمحاولة فيها ليست خطاً، بل نراها محاولة لتأسيس هذا النوع ضمن الـ(ق. ق. ج)، وبالتأكيد سوف تكتب بطريقة تختلف عما نكتبه للكبار، بشرط أن لا نتخلى عن القصصية والمشهدية والإدهاش، قد نتخلى عن الترميز العالي لصالح أن نجد وسيلة سردية يفهمها الطفل، ولذلك بدل أن نقف بالكامل ضد هذا التوجه، فلنحاول أن نكتب ونخلق الظروف المناسبة لهذا النوع من القصص، ونحاول أن نجد المبررات النقدية وحتى العناصر والشروط ونشتغل على هذا الجانب، فنحن نعلم صعوبة الصياغة والتعبير في هذا الجنس الأدبي ولذلك يتطلب الخوض بالكتابة للطفل إبداع أكبر وطريقة تفكير مختلفة بحيث تناسب الصيغة الطفل. فهناك من يكتب رواية فلسفية ورواية للأطفال، وهناك من يكتب شعراً فلسفياً وشعراً للأطفال، وكذلك في القصة القصيرة، فلماذا لا يكون كذلك في القصة القصيرة جداً؟
– أما بالنسبة لتحديد الأعمار؛ فتلك قضية أخرى والوقت مايزالُ مبكراً لذلك، والمهم الآن المحاولة وإيجاد الأسلوب والصيغة المناسبة، ومن لا يعلم أن الطفل واسع الإدراك فليجرب معه بنقاش هادئ.
– لذلك نتفهم خوف البعض من أن هذه التجربة قد تخلق قصصاً بعيدة عن جنس القصة القصيرة جداً، ولكن بالنهاية التجريب والمحاولة سيجعلنا نقيمها ونعطي الأحكام لاحقاً، رغم أن هذه النقاشات حصلت أيضاً عندما افترقت قصص الأطفال عن القصة القصيرة وعن الرواية. وهذا طبيعي كحراك ثقافي أولاً وأدبي ونقدي ثانياً، لذلك ندعو الجميع للتفكير بهذه التجربة والمساهمة بالكتابة والنقد.
تلك كانت بعض مخاوف، الدكتور صبيح، واشتراطاته وكذلك بعض حماسه، ولكن هنا أريد أن أشير إلى موضوع التسمية، سواء الاختلاف بتسمية الـ(ق. ق. ج) التي ما تزال مستمرة منذ أكثر من ثلاثة عقود إلى اليوم، وإلى التسمية التي أطلقت اختصاراً على ما يُنوى التوجه به للأطفال..
وللتذكير هنا، إن القصة القصيرة جداً ليست اكتشافاً في الغابات البكر، أو هي حديثة العهد، وإنما كتبت ليس من الربع الأول للقرن العشرين عندما نصح بها الأمريكي (همنغواي)، دون أن يُسميها (ق. ق. ج)، وإنما دعاها باسمها المُعتاد (قصة)، وهكذا فعل الروسي (تشيخوف)، ونذكر إن هذا الشكل القصصي كتبه اليوناني (إيسوب) في الزمن الذي يمتد إلى ما قبل الميلاد.. غير أنّ تسمية القصة القصيرة جداً، أطلقت خلال المرحلة (التعبوية) لها خلال العقد الأخير من القرن العشرين، ثم اختزلت إلى ثلاثة حروف للدلالة عليها، غير أن الكثيرين – للأسف- دمجوا الأحرف الثلاثة معاً ليظهر مُصطلح مُنفر خدش كل جماليات القصة القصيرة جداً وجرح شعريتها بالـ (ققج)، هكذا بكل هذه الجلافة، فما بالك بمن يُنظر لمصطلح (الققجاط)، هنا علينا أن نتخيّل وقع هذا المُصطلح المرعب، والأبعد ما يكون عن الشعرية، والإبداع.. أظن أنّ مُصطلح التسمية بحدِّ ذاته يُخبرنا إن كان من الحكمة التوجه بهذا الجنس الإبداعي اليوم للأطفال!!!