لا خير في هذِرٍ
لعلَّ من حُسن طالع المرء أن يتريّث ويتفكّر ويتروّى قبل أن يتكلّم فيتحوّل كلامُه إلى عدوٍّ، له فيصيبَهُ حينئذِ بالحسرة والندم، (ولات ساعةَ مندم)، وما أحسن قولَ القائل: من تكلّمَ أوّلاً، وفكّر ثانياً، ندمَ ثالثاً، ولعلَّ من أبجديات الحياة أن نحسنَ التعامل مع أبجدية الحروف حين تُصاغ وتتحوّلُ إلى منطوق الكلام..
فالكلام إذاً في مستوىً رفيع هو أسمى مما نتخيل ونتصور، ومن أجل هذا علينا أن نتروّى قبل أن ننطق بسنيّاته فنعلم إلى أي مقصد يذهب، وهل ضالتّه جديرٌ به حقاً؟ وهل هو بيّنٌ أم فيه ريبٌ وضعف ظنّ، ويجب أن يكون مهذّباً مقترناً بالفعل، وإلّا فهو لا يعْدو أن يكون ثرثرةً دون طائل، فكيف يبرز الصدق ويتجلّى، وكيف يعيا الستار – ما تعدّد – عن إخفاء الكذب:
وإذا الكلامُ مهذّباً لم يقترن بالفعلِ، كان بضاعةَ الثرثارِ
والصدقُ يبرزُ في المحافلِ عارياً والكِذْبُ لا يكفيه ألفُ ستارِ
الشاعر الحمْيَري يدعو لتجنّب الهذر من الكلام، ويدعو إلى الشجاعة التي هي عن القلب والنهى:
لا خيرَ في هذِرٍ يهزُّ لسانَهُ بكلامهِ، والقلبُ غيرُ شجاعِ
أبو الأسود الدؤلي صاحب الكلام الموزون المُحكم الجميل، يربأ بنفسه عن كل قول وعن صاحب كلّ قول ما لا علم لهُ به، فهو بذلك يعتقد الحقّ و يراهُ في لزوم التحقق والتسليم للحقيقة، من هنا يدعو إلى البيّنة والاِستكشاف فالحقائق إما أن تكون صعبةً عصية على من ليس لها أهلاً، وإما أن تكون ميسّرةً لمن هو خليقٌ بها واضحةً وضوح الشمس في رابعة النهار، وعليه إذ ذاك أن يجعلها مكنونةً في فؤاده إلى أن يحين زمانها ومكانها ولعلّ هذا ما أشار له الشاعر ابن المقرّي:
فكم ندمتَ على ماكنتَ فهتَ به وماندمتَ على مالم تكنْ تقُلِ
وأحبُّ أن أختم بما نُسب، شعراً، في ذلك لسيِّد أهلِ أحسن كلام الأدب، وأدب الكلام، ذوي الحكمة المحكمة والبصيرة النافذة:
وزِنِ الكلامَ، إذا نطقْتَ، ولا تكنْ ثرثارَهُ، في كُلِّ نادٍ تخطبُ