في مجريات حرب البسوس، لم يكن البكريون أقلّ شأناً من التغلبيين، ولم يكن جسّاس قاتل (كليب) أقلّ شجاعة وفروسيّة من أبناء عمومته التغلبيين. وقد سعى البكريوّن جاهدين لتجنّب تلك الحرب، وابتلعوا عدداً من وقائع عسف التغالبة وإهاناتهم لمنع نشوب حرب ضروس. لكنّ الحرب اشتعلت، وكان بلاء البكريين في كثير من وقائعها الدموية أفضل من بلاء التغالبة. القبيلتان تنحدران من أب واحد هو (وائل)، وانتهت حربهما قبل ظهور الإسلام، واستمر ذكرها إلى أيّامنا الراهنة، في ظلّ مفارقة عريضة، تتمثل في أنّ التغالبة وبطلهم المشهور الزير استقطبوا عبر مسارد التاريخ تعاطفاً, وانحيازاً معنويّاً ضدّ أبناء عمومتهم. وتفسير ذلك قائم في أنّ التغالبة أتقنوا سرد قصّتهم، أكثر مما فعل البكريون، بدءاً من التميّز الفنّي الذي حازته القصيدة المعلّقة لعمرو بن كلثوم، وصولاً إلى تدوين ملحمة (الزير) بعد مئات الأعوام؛ بينما لم يستطع البكريون أن يضاهوا خصومهم في سرد مقولتهم التي أنيطت بشاعر من أطراف القبيلة، كان قد تجاوز عمره مئة عام وقت إنشاد قصيدته (المعلّقة أيضاً) أي الحارث بن حلزّة. ولم تحظَ قصّتهم بمن يدوّنها.
وفي عصرنا، تمكّن الصهاينة من اكتساب تعاطف العالم مع ضحايا المحرقة النازية التي لم تقتصر على اليهود، بل تجاوزتهم إلى كلّ من وقف في وجه التغوّل النازي، وإلى كلّ من لم يقف، ولم يكن عدد الضحايا اليهود أكثر من سواهم، لكنّهم تمكّنوا من إتقان سرد قصّتهم، وقصّة ضحاياهم، وتمكّنوا أيضاً من استثمار المنبر الهوليودي في سياق ما يبتغون، مؤكّدين وعيهم لهذه المسألة, إذ تؤكّد أدبيّاتهم المعاصرة حرصهم على تحويل كلّ قتيل من قتلاهم إلى قصّة، في الوقت الذي يجعلون فيه قتلى خصومهم من الفلسطينيين والعرب مجرّد أرقام.
لا شكّ في أنّ كلّ شهيد من شهدائنا في مختلف المواقع والميادين، بمن فيها شهداء هذه الحرب الراهنة علينا هو قصّة حيّة خالدة في وجدان ذويه ومحيطه، لكنّ هناك فرقاً بين قصّة وقصّة، وبين قصة متداولة شفهيّاً وقصّة مدوّنة، وبين قصّة مدوّنة كيفما اتفق، وقصة مدوّنة بطريقة فنّية هي الوحيدة الكفيلة بمنحها خلودها، وقدرتها على تجاوز تخوم الزمان والمكان، وهو ما يسعى إلى فعله مختلف المدوّنات الخاصّة بالحرب على سورية، ومن هذه الزاوية يجري تثمين ما فعلته زينب عزّ الدين الخيّر في روايتها (العزيزة) التي سردت في ربعها الأخير, بإتقان لافت، قصصاً من وقائع الحرب على سورية، وقصصاً مما اجترحه شهداؤنا الأجلاّء.