في عصورٍ متقدّمة، تخطّى الكاتبُ والنّاشرُ زمنَ وأسلوب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني الذي أمضى في تأليفه خمسين عاماً وقدَّمه هدية إلى سيف الدولة الحمداني، مقابل ألف دينار، قبل أن يبادره الحاكم الأندلسي «ابن عباد» بطلب نسخة مكافأتُها ألفُ دينار عيناً ذهباً، تقديراً لقيمة الكتاب والجهد المبذول فيه!.
في عصرنا الراهن ستكون دار النشر هي المسوّق والمرغّبَ بالكاتب، حين تصنع الغلاف بدفّتيه: الأولى بالعناوين والتصميم الفني، والأخيرة بالتّعريف الموجز الذي يشكّل طعمَ صيدٍ للقارئ، وكلُّه يتمُّ بحرفيّة تنامت بالتجربة والتّفاهم الضمنيّ بين الدّار والقراء، لأن الكتاب أيضاً صار، بشكلٍ ما، سلعة تحتاج إلى الجودة وحُسن المظهر، رغم تمايزه وعلوّه على وصف «سلعة»، وارتقائه إلى مرتبة السموّ حين الحديث عن فضائل الذاكرة الإنسانية والغذاء الروحي! ولعلّ جائزة «نوبل» كانت الجوهرة الثمينة التي وقعت بيد دور النشر، تضع وسمَها على الغلاف لتطمئنّ على نِسَبِ التوزيع، معتمدةً على شهرة الجائزة التي واكبتها الاحتفاليّات الإعلاميّة المبرمجة بالترشيح والترجيح والمديح والتوقعات، فالفوز غير المتوقّع غالباً، والحفل المقام في استكهولم، وباقة من حكايات لاحقة عن القبول أو الرفض أو نيلِها متأخِّرةً أو مسيّسة، وتلك الرّغبة العارمة عند مبدعين ينتظرونها كأنها اعترافٌ أو جواز سفر عبر الزّمن واللُّغات والأقاليم والقارات وجموع المبدعين في كلّ أرجاء الأرض!.
القارئ لن تقف «نوبل» بينه وبين الرواية التي يقرؤها! سينساها وهو يتوغّل في الصّفحات برفقة الكاتب والغيمة التي تظلِّلُهما معاً، وسيتذكّر متى كانا معاً في روايات سابقة، وأيّ دروبٍ سلكا في الماضي، تماماً كما حصل مع «لعبة الكريّات الزجاجيّة» لهيرمان هيسّه بعد رواياته الشهيرة «دميان» و«سدهارتا» و«ذئب البوادي»! هنا سيبدو القارئ لا يُحسد على حاله، فالرواية التي نال عليها الكاتب جائزة «نوبل» عام 1946 طويلة وعلى السّطح تبدو بسيطة بشخصيات تتحاور حول الثقافة الأوروبية بعد الحربين العالميّتين سيّئتي الذّكر، لكن القارئ يتوه فجأة في ممرّات لا يعرف متى ولا كيف يخرج منها، وتلك اللعبة الطفولية بالكريّات الزّجاجيّة، تشتبك هنا بعالم الصّحافة الكذوب، المتلاعب، الذي شكّلته لخدمة وترويج العنف والحروب والقتل، وهي تواصل ذلك عبر تصميم وتأليف أشكالٍ جديدة من اللعبة، مع تجدُّد اللاعبين في كلّ وقت، واختلاف وعيهم، ومكانهم أو مكانتهم! وبعد المسير المضني الذي دام عشرَ سنوات تأليف، سيقرّر «هيسّه» إلحاق ثلاث روايات قصيرة مزعومة تركها بطل الرواية، لتكون زبدة فلسفة الكاتب ذاته!.
مدهشٌ ذلك الأسْرُ الطويل الذي يقع فيه القارئ وهو يتنقّل في نهايات الرواية، بين غزة فلسطين وقبائل أفريقيا وضفاف نهر الغانج الهندي، ومدهشٌ أكثر غبارُ الطّلع الذي سيجده على يديه بعد طيّ آخر صفحة من الرواية التي تعُدّ ستّ مئة وثلاثين صفحةً، وتلك الرّؤى التي تتزاحم في ذهنه عن كاتب وربما كتّاب، كانوا هم جائزةً للجائزة العالميّة الشّهيرة، وليس العكس، وقد لا تكون رغم كلّ التّكريس والتّمجيد والتّهويل، أكثر من سرابٍ لا ماء فيه أو صلصلة كرة زجاجيّة تصطدم بمثيلة لها في اللعب البشري الثقافي الذي لا ينتهي!.