معظم من يعملون بالشأن السياسي اعتقدوا أن دونالد ترامب نجح في ضمان الفوز بولاية رئاسية ثانية بعد ما حققه لمصلحة «إسرائيل» خلال ولايته الأولى، والذي كان آخره التوصل إلى اتفاقيات تطبيع مع أربع دول عربية جديدة.
وقبل ذلك اعترافه بالقدس «عاصمة» للكيان الإسرائيلي، ونقل سفارة بلاده إليها، وهو ما لم يكن أشد المتفائلين باللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، يحلم بتحقيقه خلال ولاية رئاسية واحدة لأي رئيس أمريكي.
وإذا كان إرضاء اللوبي اليهودي في أمريكا العامل الأبرز في ضمان الفوز بالرئاسة أو بولاية ثانية، فإن العامل الاقتصادي يمكن أن يكون أيضاً من أبرز عوامل الفوز، وفي هذا المجال فإن الإحصاءات تشير إلى أن الاقتصاد شهد خلال رئاسة ترامب العديد من المؤشرات الإيجابية، إن كان على صعيد نسبة النمو أو الناتج المحلي الإجمالي أو معدل البطالة، ولولا انتشار وباء كوفيد19 (كورونا) وما نتج عنه من آثار سلبية على اقتصادات الدول ككل، كان يمكن أن تكون المؤشرات الاقتصادية الأمريكية أفضل بكثير.
فإذا كان ترامب قد نجح في أهم عوامل الفوز، إرضاء اللوبي اليهودي والاقتصاد، فكيف خسر الانتخابات لمصلحة جو بايدن، ومن الذي هزمه؟ هناك من قال إنه استهتاره في التعامل مع وباء كورونا وما نتج عن ذلك.
من جانبها لم تقف أجهزة الاستخبارات أو وسائل الإعلام من دون حراك، وهي التي اعتادت على نسج الروايات والأكاذيب وتلفيق الأحداث لتشويه صورة هذا الرئيس أو ذاك لمجرد عدم موافقته على السير في ركب السياسة الأمريكية، ومع أنها كانت هذه المرة في مواجهة رئيس دولتها إلا أنها لم تكن أقل تشويهاً، فنراها، في إحدى المعارك التي خاضتها أجهزة الاستخبارات ضد ترامب، تسمح للمدعو شيلبي بيرسون المسؤول عن أمن الانتخابات بالكشف خلال جلسة مغلقة في الكونغرس عن اعتقاد الاستخبارات بأن “روسيا تدخلت في الانتخابات في المرة الأولى ويمكن أن تتدخل في انتخابات 2020″، الأمر الذي أسهم لاحقاً في الوصول إلى إجراءات عزل ترامب الأولى، وبالإضافة إلى ذلك فقد اتهم ترامب في إحدى “تغريداته” الاستخبارات الأمريكية “بإعطاء المعلومات لنيويورك تايمز وواشنطن بوست الفاشلتين”.. الفضيحة هي أن المخابرات تقدم المعلومة السرية بشكل غير قانوني وكأنها توزع قطع الحلوى.
من جانبها، لم تألُ وسائل الإعلام الكبرى جهداً في حربها لمواجهة ترامب خلال كامل فترة ولايته، وهو الذي وصفها بأنها «عدو للشعب»، وقد صوبت سهامها في كل فرصة سانحة لها ضد سياساته، وصورته على أنه “يهاجم الصحافة الحرة”، وغيرها من المصطلحات التي عادةً تدغدغ مشاعر المتلقي، وشنت حملات تمكنت في إحداها من نشر 350 افتتاحية في مختلف أنحاء أمريكا رداً على ترامب.
لا يمكن الجزم –بالمطلق- بأن تحالف أجهزة الاستخبارات مع وسائل الإعلام الأمريكية الكبرى، كأداتين من أهم أدوات “الدولة العميقة” في الولايات المتحدة، ضد ترامب، هو الذي أدى إلى هزيمته، ولكن كيف يمكن فهم سكوت اللوبي اليهودي على خسارته لولا أن المفاضلة بين ما يمكن أن يحققه ترامب لهم وللكيان الإسرائيلي من مصالح خلال الولاية الثانية، مهما كان كبيراً، وبين تقويض أسس “الدولة العميقة” التي تعد الضمان الأكبر والأهم لاستمرارية النهج الأمريكي المؤيد للمصالح الصهيونية حتى لو بنسب متفاوتة، وآخر قال: إن سلطويته المتنامية وسلوكه العدواني كانا أحد الأسباب، وغيرهم من قال: إنه أسهم في تأجيج التوترات العرقية، وكان غريباً عن المؤسسة السياسية، ومستعداً لقول ما لم يكن ممكناً قوله من الرؤساء الذين سبقوه.
قد تكون هذه الأسباب مجتمعةً هي التي أدت إلى خسارته، على اختلاف نسبها، إلا أننا إذا أردنا مقارنة هذه الأسباب جميعاً مع ما حققه في العاملين المذكورين آنفاً: إرضاء اللوبي اليهودي والاقتصاد، فنجد أنه والحال هذه، كان من المتوقع أن يفوز ترامب، فكيف خسر؟
من خلال استعراض بسيط لتصريحاته ومواقفه، يمكن القول: إن ترامب نجح خلال ولايته في هتك صورة اثنتين من أهم أدوات “الدولة العميقة” في الولايات المتحدة وهما أجهزة الاستخبارات، ووسائل الإعلام الرئيسية، فضرب أساس عمل هاتين الأداتين، وكانت جل ملاحظاته على عمل الاستخبارات الأمريكية، بمختلف مسمياتها، تتعلق بالبناء على معلومات وتقييمات غير صحيحة، كما حدث في العراق وغيره، أما وسائل الإعلام فقد تركزت ملاحظاته على مصداقيتها ونقلها الأخبار الكاذبة.. وهو أمر يتفق معه كثيرون في مختلف أنحاء العالم، إلا أن ذلك جعل صداه داخل “الدولة العميقة” أكبر خاصةً أنه ضعضع أسسها على الصعيدين الداخلي والخارجي، وكان يمكن في حال استمراره لولاية ثانية، أن يقوض أسسها تماماً، لاسيما أن من ينتقدها هذه المرة ليس رئيس دولة استهدفتها الولايات المتحدة بشكل أو بآخر، بل رئيس الولايات المتحدة بنفسه.