مِن دُونِ مُونتَاج!
بعيداً عن سلوكيات أنصار الحزب الجمهوري والرئيس دونالد ترامب المنتهية ولايته في الـ20 من الشهر الجاري، والذي شغل العالم منذ أربع سنوات وحتى الساعة، وجعله على صفيح ساخن يوحي بالانفجار في أي لحظة قبل تنصيب الرئيس الجديد.. وبعيداً عن ردود الفعل من أنصار الحزب الديمقراطي والرئيس الـ46 المنتخب جو بايدن والذي سوف يتوّج في الـ20 من كانون الثاني الجاري رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية.. بعيداً عن كل ذلك لا يهم إن كان الحاصل مسرحية أم لا؛ ولسنا بصدد إثبات من كان عليه أو له الحق؛ ولا هذا الفريق أفضل من ذاك؛ ولا هل أحداث احتلال الكونغرس عفوية حقيقية أم مفتعلة؛ وهل تحويل مبنى الكونغرس لثكنة عسكرية للقوات الخاصة مؤقت حتى نهاية ولاية ترامب أم دائم بسبب تجذر الحالة “الترامبية” في المجتمع الأمريكي؟ يقال إن الشيطان يسكن في التفاصيل، لكن كثيراً ما تكون التفاصيل أقوى من قدرة الشيطان على الدخول في فجواتها.
وبعيداً عن الاصطفاف الداعم أو المعارض مابين الحزبين الأمريكيين، فقد سقطت استعراضات الوجاهة والأناقة والتشاوف الكاذب الزائل، والصورة القادمة من الولايات المتحدة كانت أكثر من صادمة وأكثر من خطيرة بل كارثية.. فقد اهتزت وهزّت معها كل عروش حلفائها في العالم.
نعم هذه هي حقيقة الولايات المتحدة.. خليط من الشعبويين والعنصريين والشذاذ وقطّاع الطرق والحشاشين ورعاة البقر يحتلون أكثر مكان تحيطه الإجراءات الأمنية.. هو الكونغرس! وتُبَثُ منه صور قاسية يندى لها الجبين.. تؤكد أن الديكتاتورية موجودة حتى في الثياب الأمريكية.. العنف مقابل العنف.. هذا يرتدي قناع ثور وآخر يتنكر بهيئة خنزير، وثالث بالذئب، ورابع بالرجل الآلي، وخامس براعي بقر، وآخر يحمل قوساً وسهاماً وآخر رمحاً، وغيره درعاً وسواه يرتدي ثياب الأدغال والكهوف.. وهذه رسائل وإشارات مشفرة للداخل والخارج.
نعم هذه هي حقيقة الولايات المتحدة التي حاولت منذ تأسيسها أن ترسل رسائل مزيفة عن الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة، ولكن لحظة تسلسل طبيعية من دون مونتاج وتمثيل كشفت المستور، وأظهرت سلوكيات عناصر وجمهور وأنصار أكبر وأهم حزب ليس في الولايات المتحدة بل في العالم، وردود الفعل من منافسه اللدود الحزب الديمقراطي الذي لا يختلف عنه كثيراً مهما تصنع وتجمّل.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل فعلاً هذه أمريكا التي تُفاخر بأنها “أم الديمقراطيات والحريات والمؤسسات والقوانين الوضعية”؟ فإذا كانت كذلك، لماذا اتهمت المقتحمين لمبنى الكونغرس – ماداموا سلميين- بالإرهاب، ووجهت بتصفيتهم على لسان الرئيس الديمقراطي المنتخب الجديد؟ وإذا كانت هي كذلك فلماذا قطعت “الإنترنت” ليلة الحقيقة عن العاصمة واشنطن وضواحيها؟ وحتى عن الرئيس ترامب وحجبت وأغلقت كل حساباته على كل مواقع التواصل الاجتماعي؟ ولماذا فضّت الاعتصامات بالقوة وبكل أنواع العنف المبالغ به؟ أليسوا “طلاب حرية”؟ ولماذا نعتتهم “بالإرهابيين”؟ بينما إرهابيو ما يسمى “الجيش الحر وجبهة تحرير سورية وألوية أحفاد الرسول وهيئة دروع الثورة وكتائب الوحدة الوطنية والجبهة الإسلامية وجيش الإسلام وحركة أحرار الشام الإسلامية وجيش المجاهدين وداعش والنصرة” اعتبرتهم “طلاب حرية”، وهم الذين أذلوا وسرقوا ونهبوا العباد ودمروا البلاد، أهذا هو المكيال الأمريكي و”الشعار” الذي يحمله تمثال الحرية الأمريكي.
على أي حال؛ مَنْ شاهد وتابع عمليات الاقتحام والتخريب والنهب من قلب مبنى الكابيتول يعي جيداً أن هذه هي الصورة الحقيقية لوجه الولايات المتحدة القبيح، ولكن هذه المرة لم يتسنَ لفناني المونتاج “منتجة” ما صدر، لمداهمة الوقت لهم.. كما يجري في العادة عبر الدراما أو عبر أفلام هوليوود المدروسة والموجهة، فكانت هذه أفلاماً واقعية حقيقية عفوية لم تستطع “الدولة العميقة” في الولايات المتحدة تزوير مصداقية الصورة، لأن الطرفين هما أركان السياسة الأمريكية وصناعها.. وهذا يشي بأن وراء ترامب جمهوراً شعبوياً وعنصرياً هائجاً وكبيراً وهو يمثل الثلث أو يزيد من الأمريكيين.. وسوف يبقى وينتظر لحظة أخرى لينتفض على الخصوم سواء الملونين أو المهاجرين، أو حتى المختلفين معهم بالرأي أو الانتماء الحزبي، وهذا يؤسس لأسئلة: هل ستبقى دولة عظمى أم إن تراجعها حتمي؟ وهذا حال الإمبراطوريات.. توسعت.. فسادت.. فاندثرت.. وهذه أولى تباشير انهيار الإمبراطورية الأمريكية.. والرصاصة القاتلة على رأسها انطلقت من الداخل، منذ يوم احتلال مبنى “الكابيتول” لساعات، واستنفار الحرس الوطني في واشنطن وقمع التظاهرات وزج الآلاف في السجون الأمريكية وتحويل منابر وقاعات التشريع “الكونغرس” إلى ثكنة عسكرية يفترشها العسكر، والقادم أعظم.