يؤكّد ويل كيمليكا في «أوديسّا التعدّدية الثقافية» وجود ستّة آلاف لغة في عالمنا المعاصر، غير أنّ المفارقة الغريبة أن نحو 96% من سكّان العالم يتحدّثون 4% من تلك الآلاف الستة من اللغات، مشيراً إلى وجود سبعمئة لغة في جزيرة غينيا الجديدة وحدها، ويشير كتاب «غيرة اللغات» إلى الدور الاستعماري الفظيع في إبادة اللغات الأخرى: «خلال الحقبة الاستعمارية وُصمت لغات كثيرة بأنها شيطانية، وحوربت على هذا الأساس.. الكثير من حوادث إبادة اللغات وقع على مدى التاريخ» ويُضاف إلى ذلك أن العالم الحالي يشهد يوميّاً انقراض لغة أو أكثر حسب إدواردو غاليانو، ولا يقتصر فعل الإبادة على لغات الأقوام المستضعفة، فقد ذهب الإنكليز إلى أنّ اللغة الإسكتلندية هي مصدر كلّ سلوك بربري.
سعت الحقبة الاستعمارية بكل قواها وأدواتها إلى إبادة العربية، بوصف إبادة اللغة هي إبادة فعلية لكلّ من يتكلّمها ويفكر بها، إبادة يتأخّر مظهرها الفيزيائي قليلاً على مظهرها الثقافي الفكري الذي يجري إنجازه بلا هوادة. وللعرب أن يتبّجحوا قليلاً ومؤقّتاً بالفكرة الذاهبة إلى أنّ المشروع الاستعماري لإبادة العربية قد فشل وانتهى أمره، لكن المؤسف أنّهم لا يعرفون أنّ مشروع الإبادة لا يزال قائماً، والأكثر إثارة للأسف أنّ بعض العرب هم الأداة المباشرة لتنفيذ هذا المشروع الخطير الذي يُودي بهم إلى خارج الجغرافيا والتاريخ على حدٍّ سواء، وهذا الأمر لا يقتصر على بلدان الخليج التي تتحدّث شوارعها بكل ما فيها من طوفان بشري بغير العربية، إذ انتقلت المشكلة إلى البلدان التي يحكمها الفكر العروبي، والمشكلة في هذه البلدان تتعدّى ميل الأجيال الناشئة إلى نبذ العربية واستعمال لغة الآخر الأقوى «المستعمر التاريخي» إلى ما يشبه إقداماً جمعياً على سلخ الجلد العربي، بدءاً من الانسلاخ عن اللغة العربية والتنصّل من استعمالها إلى الشغف المَرضي برفع أعلام الدول المنتصرة في لعبة كرة القدم.
كانت المؤسسة العربية للإعلان السورية قد ألزمت أصحاب المحال التجارية باستعمال الحروف العربية لكتابة أسماء المحال، ولصاحب المحلّ أن يضيف إلى المكتوب بالعربية كتابة أخرى إذا شاء، لكن المثير للاستغراب اليوم أنّ اللافتات المكتوبة بالعربية كلّياً أو جزئيّاً صارت شبه نادرة، ومن حقّنا بوصفنا نستعمل العربية أن نسأل هؤلاء: لمن تكتبون، ومن هم الذين تحاولون استدراجهم إلى محالّكم باللغات الأوروبية؟ وكأنّ شوارعنا اليوم مكتظة بأولئك الأوروبيين المتهافتين على شراء بضائعكم، والتهام شطائر الفلافل ذات الأسماء المدوّنة بالأحرف الأخرى.