المسودات الأولى
بعد احتدامٍ دام طويلاً في سرد التاريخ الروائي؛ من أن محمد حسنين هيكل صاحب رواية (زينب) المصرية حيناً، وطوراً فرانسيس مراش صاحب رواية (غابة الحق) السورية قد فعلها أول مرة، كان أن تمّ في أحد ملتقيات الرواية في الرقة؛ ما يشبه التوصل إلى حلَّ توافقي، على أنّ من كتب الرواية الأولى في العالم العربي هي السورية زينب فواز، لكنها وياللدهشة والطرافة كانت تعيش في مصر ..!
فحتى اليوم؛ لم تُحسم هوية الرواية الأولى في العالم العربي، ففي كل حين يأتي ناقدٌ ليؤكد أن الرواية الأولى كانت من نصيب أديبٍ مُختلف، وكان آخر من خوّض في هذا البحث الناقد المصري سيّد البحراوي؛ عندما فجر مايشبه “القنبلة” الدخانية في أوساط المثقفين المصريين الذين لديهم عقدة الريادة، معلناً عن اكتشافه رواية (وي،إذاً لست بإفرنجي)، وهي رواية صادرة في بلاد الشام، باعتبارها أقدم من كل ماسبق ذكره سورياً ومصرياً، وعندما سألته عن سر هذا الاكتشاف قال: الحقيقة أنني لست من اكتشفها، بل اكتشفها أحد طلابي، وهذه الرواية الصادرة عام 1856؛ يتحقق فيها الشرط الروائي، وبالتأكيد هي أفضل من كل ما تمّ ذكره من روايات، وهي الرواية التي كتبها في ذلك الزمان خليل الخوري، وحققها شربل داغر سنة 2007، وصدرت في بيروت على أنها الرواية العربية الأولى..!
في كتابه (فن الرواية)؛ يؤرخ كولن ولسن ليوم السادس من تشرين الثاني 1740 لصدور أول رواية في إنكلترا (باميلا أو مكافأة الفضيلة)، إلا أن أكثر الأشياء غرابة في شأن صدور (باميلا)؛ هو أن المؤرخين لم يبدوا وكأنهم قد لاحظوا أهميتها الثورية، فقد اعتبروها علامة أدبية بارزة بالطبع، ولاحظوا أيضاً أن هناك هوة سحيقة – نفسية وحضارية – بين عصر سويفت وعصر ديكنز، إلا أنهم يميلون إلى إرجاع ذلك إلى أسباب اجتماعية – الحروب والتحولات الصناعية – غير أن نظرة واحدة إلى كتب التاريخ تُبين أن هذا بعيد عن الصواب، إذ لم يحدث أي شيء في أوروبا يمتاز بالثورية حوالي عام 1740 الذي هو العام الذي صدرت فيه الرواية. أما بالنسبة للثورة الصناعية والثورة الفرنسية؛ فقد جاءتا بعد مرور خمسين عاماً على ذلك، في وقت كانت فيه ثورة الخيال قد غيرت كثيراً من أوروبا.. إذاً لقد كانت تلك نتائج لا الأسباب. فإذا ما كانت (باميلا) بمثابة ثورة بركانية، فإن رواية (جولي أو إيلويز الجديدة) لجان جاك روسو 1760؛ كانت بمثابة هزة أرضية، وعلى هذا الصعيد رأى ولسون أنه “ربما لم تكن هناك رواية أخرى لها التأثير ذاته الذي أحدثته على التاريخ الثقافي لأوروبا، وقد حققت لروسو شهرة لا يمكن تخيلها “.
ثمة أمر ما، يشدُّ بعض المثقفين إلى البحث عن المسودّات الأولى، أو الإرهاصات لبعض الأجناس الإبداعية، لاسيما في الأدب، لدرجة تأخذ أحياناً تيمة النزعة، وكأنّ أمر تلك المسودّات، أو الإرهاصات هو ما يُعطي الشرعية لهذا الجنس الإبداعي، أو ذاك، ولنتذكر لايزال الأسبان إلى اليوم؛ يصرون على أن رواية كاتبهم (دون كيخوته) لسرفانتس؛ هي الرواية الأولى في العالم كله..