الليبرالية الجديدة السرطانية المتوحشة
بات واضحاً وجلياً، حتى للعامة، أن الحضارة الغربية المادية التي امتلكت عقول الشباب وزمام السلطة والقوة والسيطرة والاحتلال والهيمنة الاقتصادية والتكنولوجية والإعلامية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الأمس القريب، على مستوى العالم، قد بدأت مرحلة التفسخ والانحدار والسقوط ووصلت إلى حافة الانهيار، طبعاً ليس لفقدانها القوة الاقتصادية والمادية والعسكرية والتسويقية وإنما الروحية، بسبب إفلاسها من عوامل القوة الحقيقية الأساسية السامية الثابتة الأصيلة؛ ولأنها فقدت البوصلة الروحية واعتمدت المنهج المادي على حساب المنهج السامي الراقي من أخلاق وإيثار وحميمية الأسرة ومن القيم الإنسانية العادلة التي ترتكز عليها أي حضارة نبيلة من أخلاق ومبادئ ومساواة وسيادة القانون، ولكن ليس فقط على مستوى شعوبها وإنما على كل شعوب العالم والكيل بمكيال واحد ليس بمكيالين، كما تفعل الدول الغربية، وهذا بات ملموساً وثابتاً في سلوكياتها منذ عقود، وبسبب عنصريتها وعدوانيتها المتوحشة وهذا ما جعلها تسير بخطا متسارعة نحو الانهيار التام من الداخل.
وخير مثال جائحة كوفيد19 التي عرّت أكذوبة “إنسانية” المجتمعات الغربية تجاه أسرهم وأهاليهم ومن ثم حلفائهم وباقي دول العالم وشعوبها، وبذلك قطعت مسافات كبيرة في السقوط الحر والانهيار الحتمي، رغم الكم الهائل من العلم والمعرفة والتقنيات العلمية والفنية والتكنولوجية، لكونها غير موظفة أساساً لخدمة الإنسانية والبشرية وإنما لتدمير العادات والتقاليد والحضارات العريقة؛ وبذلك انقلب السحر على الساحر.
وهذا ليس بغريب عليها لأنها تعيش المادية المطلقة وتسوغ وتدفع نحوها، فباتت بلا روح ولا عقيدة سماوية إلهية سامية، وعملت على ترسيخها وتعميقها ليس في بلادها وحسب وإنما سعت بكل ما أوتيت من قوة اقتصادية وعسكرية وتكنولوجية وإعلامية على تعميم تجربتها الفاشلة على الأمم والشعوب العريقة التي تعود حضارتها إلى آلاف السنين على مبدأ “ذوي العيوب يحبون إشاعة معايب الناس ليتسع لهم العذر” وتكون صورة طبق الأصل عنها عبر العولمة السياسية والاقتصادية والثقافية وهذا ما راق لأمريكا و”إسرائيل”؛ فالأولى لا يكاد يكون عمر حضارتها يبلغ ٢٥٠ عاماً فيما الثانية اللقيطة لم يمض على تأسيسها الاستعماري سوى 72 عاماً لذا عمل التيار الغربي بالتعاون والتنسيق مع الكيان الصهيوني إلى ضرب المجتمعات الإنسانية الأخلاقية المحافظة وخاصة العربية والإسلامية من الداخل ليسهل عليه المرور بسلاسة والسيطرة على عقول العامة ثم الترويج لكل الماديات الغربية الاستهلاكية عبر ما يسمى بحرية الفرد المطلقة وحرية المال وحرية الجنس وحرية تعاطي “الكيف” على قارعة الطريق والترويج للمساكنة والزواج المثلي وزواج المسيار وزواج المصياف التي يرفضها المجتمع العربي؛ بل تسفيه الرموز الوطنية والقومية وحب الوطن وتحقير دور الأسرة وحقوق الوالدين والعادات الصالحة السامية من تبجيل الكبير والعطف على الصغير واحترام حقوق الجوار.
كل هذا سعت إليه غرفة العمليات الغربية عبر ماكينتها الإعلامية الجهنمية المترافقة مع سيطرتها على شبكات الإنترنت وتقنيات الموبايل الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي بعد أن فشلت بتحقيق ذلك منذ احتلالها للمنطقة العربية ما بين القرنين 15-20 مروراً بالسيطرة عبر التبعية الاقتصادية وصولاً إلى التدخل المباشر عبر ما يسمى “الربيع العربي”، زوراً وبهتاناً والترويج لشعارات براقة كاذبة من عيار الحرية والعدالة والمساواة وهي شعارات حق يراد بها باطل؛ ومع هذا فشلت بتحقيق كل ما تصبو إليه من تدمير المجتمع من الداخل؛ لذا لجأت إلى “الحرب الناعمة” وهي “الليبرالية الجديدة” وهي أشبه بالسرطان الذي يلتهم الجسم والهدف منها ضرب إنسانية الإنسان وتحريره من كل المبادئ والقيم السماوية والوضعية وهذا ما يتناقض مع الدين، لأن الأديان أنزلت من أجل تكريس وترسيخ الإنسانية.
بل ذهبت الدول الغربية وعبر “الليبرالية الجديدة” لتجنيد الكثير من اللاجئين بشكل مباشر للعمل ضد دولهم ومجتمعاتهم، أو غير مباشر عبر إعادة تصنيع قيمهم وأخلاقهم وسلوكياتهم التي نهلوها من الغرب كحرية الجنس و”الكيف” والتحلل من كل القيم التي تربوا عليها ليمارسوها بعد عودتهم من دون خجل أو حياء وهذا ما تصبو إليه.
كل هذا تعيه الدولة السورية جيداً، فلو تخاذل جيشنا العقائدي الباسل أو تهاون لانتصر الإرهاب، وبذات الوقت كانت المؤسسة الدينية واعية لذلك، فانتصرت على الفتنة وعلى التطرف وعرّت كل الأهداف الغربية، من الإساءة لقيم الدين الإسلامي الحنيف، الدين الشامي المعتدل السامي العلماني الذي يقبل كل الأديان ويقدسها والذي يضرب به المثل بين العرب والمسلمين، وهذا ما دفع الغرب عبر “ليبراليته الجديدة” إلى تركيز كل أهدافه على الدولة السورية التي تحلق بجناحي الجيش العقائدي والمؤسسة الدينية المعتدلة ومن خلفها شعب حضاري يشهد له التاريخ والجغرافيا، وهذا لم يرق لمروجي “الليبرالية الجديدة”، فعملوا على تدمير ذلك.
ولكن الدولة السورية بجناحيها الرسمي والشعبي كانت واعية لذلك معتبرة أن رغبة الدول الغربية ليست قدراً وإفشال خططها ممكن بل واجب، وهذا ما كان؛ حيث أبدعت المؤسسة العسكرية بتضحياتها، وأذهلت المؤسسة الدينية الآخرين بصمودها رغم محاولات وسمها بالإرهاب، وأحسنت الأسرة السورية التربية رغم الهيمنة الكونية التكنولوجية والإعلامية والحصار الجائر، ولكن قدرنا أن ننتصر وأن يبقى الشرق وقلبه سورية بروحانياته وعقائدياته وتدينه المعتدل النقي الصحيح عامل قوة وصخرة تتحطم عليها كل مخططاتهم الاستعمارية وآخرها “ليبراليتهم السرطانية الجديدة المتوحشة”.