(التيس البيئي) والمتوكل وابن الجهم
من الحكايات التي لا ينقطع سردها كدليلٍ على تأثير المكان ليس في منحه صفات جسمانية للكائن المولود فيه وحسب؛ بل تأثيره في الذهنية والتركيبة الفكرية التي يعيش من خلالها هذا الكائن سنوات عمره.. وهي حكاية القصيدة التي اشتهرت بقصيدة (التيس) للشاعر البدوي علي بن الجهم التي أنشدها في مديح الخليفة المتوكل في بغداد.
فرغم فصاحة علي بن الجهم؛ غير أنه كان إعرابياً جلفاً، على ما وصفته الحكايات المروية عن سلوكه، وهو الكائن الذي لم يُغادر الصحراء.. ذلك المكان الأول الذي منح الشاعر قاموسه اللغوي وحتى الشعري الإبداعي.. تماماً كأية بيئة أخرى التي تُعتبر بمثابة النبع الثّر الذي على المبدع أن يمتح منه ما يشاء من عناصر هذه البيئة سواء كانت طبيعية أو اجتماعية، وغير ذلك من مناحي الحياة البيئية؛ بمعنى (الإنسان دائماً ابن بيئته) في خاتمة الحكاية
وبالعودة إلى “تيس” ابن الجهم، فإن الأخير سال لعابه على العطايا التي قيل إن المتوكل لا ينفكُّ يمنحها لمادحيه من الشعراء الذين كثروا، وهم يتكاثرون في مختلف العصور في بلاط الحاكم، ولاسيما إذا ما كان الحاكمُ عربيّاً، وهو الأمر الذي دفع بابن الجهم ليكون في بلاط قصر الخليفة، والذي ذُهل عندما رأى الشعراء ينشدون وينالون العطايا، فسنَّ سيوف حنجرته، وكأنه لايزال خارجاً من خيمة بدوية شاهراً سيفه في وجه قبيلةٍ مجاورة سيغزوها لأجل الكلأ والماء والوجه الحسن، فأنشد الخليفة ما يلي:
أنتَ كالكلبِ في حفاظك للودِّ
وكالتيسِ في قراعِ الخطوبِ
أنتَ كالدلو لا عدمتكَ دلواً
من كبارِ الدلاْ كثيرَ الذنوبِ
وباعتبار كانت البلاغة في الشعر العربي الموزون تقتصر على التشبيه بالدرجة الأولى، مضى ابن الجهم يضرب للخليفة الأمثلة بالتيس والعنز والبئر والتراب.. فلم يتمالك المتوكل نفسه من ثورة كاد فيها أن يُطيح برأس ابن الجهم، لولا تدخل الحاضرين، وتفهيم (سموّه) بغلبة طبيعة ابن الجهم، وأهمية تلك (المُشبهات) بها في نفسه.. فما كان من “أمير المسلمين” إلا أن أمر بإقامة ابن الجهم في قصرٍ مُنيفٍ اتكأ خلالها الشاعر البدوي على الأرائك، وجالس الجاريات، وحور العين اللواتي يملأن قصر صاحب السعادة، وكان أن استلذّ ابن الجهم بما لذّ وطاب بتلك الدعة والإقامة سبعة أشهر، وبعد ذلك حضر بين يدي (جلالته)؛ فكان أن أنشده شعراً أرق من قوام جارية في العشرين يقول في مطلعها:
عيونُ المها بين الرصافةِ والجسرِ
جلبنَ الهوى من حيثُ أدري ولا أدري
أعدنَ لي الشوقَ القديمَ، ولم أكنْ
سلوتُ، ولكن زدنَ جمراً على جمرِ
ماأريد أن أصل إليه من حكاية (تيس) ابن الجهم؛ هو إصرار بعض الكتّاب والشعراء اليوم، ونحن نقترب من ختام الربع الأول من الألفية الثالثة؛ على استخدام مفردات أحفورية في نصوصهم، ولاسيما في النص الشعري، وعلى وجه التحديد عندما يكون النص مبنيّاً على الوزن والقافية، رغم أن الكثير منهم لم يعرف تيس ابن الجهم وكلبه في قراعمها الخطوب، ولم يعايشوهما.. بل وحتى الكثير من نصوص قصيدة النثر اليوم تحتفي بالأحفورات القاموسية القادمة من عمق الصحارى الغريبة عن بيئة معاصرة قطعت أزماناً في بيئة مُغايرة، كلُّ ذلك يأتي توسلاً لاستعراضٍ لغوي، والذي لا يُنتج سوى نص شعري أقرب إلى القصيدة (المُستحاثة).
في الختام (كل الحق) على (مجمع اللغة العربية)، متحف المفردات الأحفورية بلا هوادة، أما عن حكاية التعريب الذي يقوم به؛ فتلك حكاية أخرى.