تكيُّف

كانت أم صابر تُدَرِّس ابنها في الصف الثالث الابتدائي مادة العلوم، لأن المعلمة أخبرته أن السَّبْر سيكون صعباً وأنها ستضع له علامة تُشركها مع ما يناله في الشَّفهيّ، بمعنى أنها ستؤثر في «الممتازات» في جلاء الفصل الأول، و(الممتازات) بالنسبة لأم صابر خط أحمر حقيقي، ولا يشبه البتة ذاك الخط الذي يتداوله الجميع بخصوص الخبز وغيره.
المهم أنه وفي غمرة انهماك الأم بتحفيظ ابنها، وترسيخ المعلومات في ذهنه، وصلت إلى درس التَّكيُّف وأنواعه، وما أن بدأت بـ«تكيُّف الحركة» ومثاله الأرنب الذي تطول قوائمه الخلفية وتقصر الأمامية من أجل القفز، والقرد على عكسه تطول الأمامية وتقصر الخلفية من أجل التسلُّق… حتى دخل أبو صابر محني الظَّهر، وغارق بعَرَقِه من أحماله ومن صعود الأدراج إلى الملحق الذي يسكنون فيه، وبالمختصر «عايف التنكة» كما يقال، حتى تماهَتْ في مخيلة الأم قدرة زوجها على التَّحمُّل والتَّكيُّف إذ صار شكله أشبه بالشمبانزي. ابتسمت في سِرِّها وهمست (أكتر من القرد ما مسخ الله).
وخلال تسميعها لابنها عن حالات التَّكيُّف باللون، مرَّ كتاب العلوم على السِّحلية والجَراد اللذين يبدلان لونهما بحسب المكان الذي يكونان فيه، ولمحت رَجُلَها وهو يستعد للحَمَّام، بساقيه البيضاوين، بينما زنوده ووجهه اقتربا من اللون الأسود لكثرة ما لفحتهما شمس الصَّيف، عادت لابتسامتها وهي تلاطف زوجها بالقول: (حمَّام الهَنا يا عريس).
وما إن وصلت إلى التكيُّف بالشَّكل، ومثاله الأسماك التي باتت انسيابية لتتمكن من السِّباحة بسلاسة، حتى تبادر إلى ذهنها النقص الحاد في وزن حبيب قلبها، بحيث بات كـ«العصاية طقِّي»، إذ لا يتجاوز السبعين كيلو رغم أن طوله يزيد على الـ190 سنتيمتراً، وباحت في سِرِّها بأن طوله الباسق يُسَهِّل عليه الوصول إلى طاقة الفرن، والتَّعلُّق بمقبض باصات النقل الداخلي أثناء الجري السريع وراءها، لذلك خرجت من فمها عبارة «يخليلي ها الطُّول» عذبةً وحلوةً كالعسل.
لكنها ما إن انتبهت إلى عنوان الدرس «بيئتي تدعمني» حتى كادت تغرق بأحزانها، وكي لا تُزعِج زوجها وأطفالها، طلبت من ابنها أن يُراجع دروسه بينما ذهبت لتُحضّر الغداء لحبيبها المُتعَب وهي تُدندن «يا ظريف الطول يا أسمراني.. ما ارضى عني تغيب لو ثواني» وفي قلبها ينبوع دموع..

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار