العالم كمكتبة كبيرة

يعتبر الكاتب الأرجنتيني خورخي بورخيس ذي الصيت الذائع؛ إن”ألف ليلة وليلة” الكتاب النموذجي الأكمل الذي لا نعرف له أول من آخر، بل هو مفتوح على متاهة المعنى المتكررة في كل عصر، بحيث يمكن لأي كاتب أن يضيف إلى تلك الليالي ليلته الخاصة ويخلق شهرياره وشهرذاده في آن. وعن الكتب بوصفها المادة التي تحمل عصارة الفكر الإنساني على امتداد العصور، وتجمع بين دفتيها خلاصة التجارب والأحلام والرؤى الكونية؛ يرى بورخيس العالم شبيه بمكتبة كبرى لا بداية لها ولا نهاية.
ومن وجهة نظره؛ إنّ البشرية لا تكف عن إنتاج أفكارها وسريرتها عبر الكتابة. وهي بذلك تكتب تاريخ تحولاتها المستمرة، وتؤرخ لسيرتها التي يتضافر على صنعها آلاف الكتّاب من أجيالٍ مختلفة. يحاول بورخيس أن يُمجّد الكتابة نفسها بما يشبه صرخة الشاعر الفرنسي سان جون بيرس “أنا حامل عبء الكتابة, سأمجد الكتابة”.
هذه النظرة العميقة لدى بورخيس لا تقتصر على الكتابة وحدها، بل ترتبط بالقراءة بوصفها متمم الصورة ومكملها. فالقارئ ليس مجرد كائن حيادي ومنفعل, بل طرف رئيسي في عملية الكتابة نفسها. وإن مجرد خروج النص ووقوعه تحت نظرات القراء هو بمثابة تأكيد لرغبة الكاتب في الاتصال والتواصل مع الآخرين من جهة، وتأكيد هويته التي تصبح عبر الكتابة مُركبة ومركز استقطاب لهويات الآخرين من جهة أخرى.
في هذه الحال نحن نكتب للآخر كما نكتب لأنفسنا، وهذا الآخر ليس له وجوداً خارجياً منفصلاً، بل هو في وجه من الوجوه “آخرنا” نحن، وحين نحاور؛ أنفسنا فنحن في الواقع نحاور الآخر الذي نستولده من أعماق ظلمتنا المُلحة. من هنا فإنّ اللقاء بين الكاتب والقارئ لا ينبغي أن يتم على سطح الأشياء وإنما في قرارتها. لذا يحتاج أي نص إبداعي حقيقي إلى طرفين اثنين: الكاتب والقارئ. والقارئ حين يقرأ النص إنما يُعيد إنتاجه ويساهم في محاولة الخروج من المتاهة التي رأى بورخيس في المكتبة الجامعة رمزاً لها.
إن متعة الكتابة الفعلية تكمن في الإحساس، بأننا نمنح أنفسنا فرصة جديدة لقهر الزوال والتلاشي عبر الإتحاد بالروح الشاملة للجنس البشري. أما متعة القراءة فتتمثل في لذة اكتشاف الآخر داخلنا من خلال إضاءة المناطق التي نحس بوجودها في أعماقنا من دون أن تتاح لنا فرصة التعبير عنها..

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار