تزييف الحقيقة
تعتبر العرافة من أقدم المراحل الفكرية التي حاول الإنسان من خلالها إيجاد أجوبة لتفسير ما يجري معه أو حوله، كما حاول عن طريق الدين والفلسفة والعلمانية، على أن هذه المراحل الفكرية لم تلغ ما سبقها على اختلاف ترتيب حضورها، رغم الصراعات الفكرية والحروب التي حدثت بين أتباع كل مرحلة فيها ومعها، في محاولة لمحو السابق وتثبيت الحالي.
وليس أدل على هذه الحروب من التسميات السلبية التي وسمت العرافة كالخرافة والشعوذة في دلالة واضحة على سلبية النظرة إليها، ولعل اللافت هو استمرار العرافة بعد كل هذه المراحل والحروب معها والأدوات المستخدمة للحد منها، كالقوانين الصارمة التي تمنع التعاطي مع العرافين، أو الدراما كأداة لم تكن حيادية، ومع ذلك بقي الناس يتجهون للعرافة!!.
صحيح أن القلق المعرفي يعتبر القاسم المشترك بين هذه المراحل، ولكن القلق بقي بحركة نمطية، فالإنسان عندما يجد جواباً مرضياً لعقله، ومُسَكِناً لقلقه المعرفي، وبقدر أهمية السؤال يستكين له، ثم يبني عليه نظرة، وعندها إما أن يبدأ بالتوفيق بين السابق والحالي، أو يحاول استكمال الأجوبة وصولاً إلى منظومة فكرية أو فلسفية، أو ينشأ صراع مع السابق أساسه مصالح السابق أو استكانته أو تصالحه، فيأتي الجديد ليعكر صفو المصالح والمصالحة، لهذا لم يكن القاسم المشترك سبباً لتوحيد الفكر الإنساني في مواجهة القلق بقدر ما كان سبباً في الصراع!.
قلنا رغم كل الهجوم على العرافة بقيت، ولم تنفع هذه الأدوات وغيرها في القضاء على العرافة، لأنها ببساطة لا تقدم أجوبة مرضية عما يجري، والإنسان في بحثه عن أجوبة عندما لا يجدها في الحيز المنطقي أو العقلاني، سيتجه إلى اللامنطقية واللاعقلانية للبحث.
العرافة تشبه مجموعة الأعداد العقدية، ففي الرباضيات علمونا أن الإجابات هي في جملة الأعداد الطبيعية وعندما لا نصل إليها نبحث عنها في جملة الأعداد العقدية.. في حياتنا الكثير من اللامنطق، واللاطبيعي، والعقدي، أو بحسب تعبير ممدوح عدوان: “في حياتنا شيء يجنن فإن لم نجن فنحن بليدون”، والعرافة والقبول بأجوبتها وتزيينها ثم تزييفها على أنها الحقيقة؛ أدل دليل على هذه البلادة.