تعداد

الشائع لدى رعاة البقر في الولايات المتّحدة أن يسم مالك القطيع ثيرانه وأبقاره بما يشير إلى ملكيته، والوسم يجري بواسطة كيّ الدابّة بخاتم معدني يحمل الرمز المناسب. ورواية (تعداد) لـ (جيسي بول) تستعرض في جملة ما تستعرضه, عمليةَ وسم البشر الخاضعين للإحصاء في مناطق تشي الرواية بأنّها واقعة في الغرب الأمريكي؛ حيث يقوم طبيب جرّاح بعمليّة التعداد، بعد فقدان زوجته بمرض خطير، أصابه أيضاً؛ ولذلك أقدم على تغيير المهنة وانخرط في علميّة التعداد مع ابنه الوحيد الذي رتّب أمور متابعته وتربيته، قبل التجوال في المناطق التي جعلها تحمل الأحرف الهجائية بحسب تسلسلها المنطلق من الجنوب إلى الشمال الذي يتوقّع الطبيب موته في آخر منطقة يبلغها, أي المنطقة (ياء).
الرواية ذات نفس سوداوي كئيب، فهي مسرودة بقلم رجل يمارس احتضاراً مديداً بصحبة ابنه الذي يعي كلّ شيء، ويعرف أنّ نهاية التجوال الخاصّ بأداء وظيفة التعداد تعني نهاية حياة والده. ومع ذلك استطاعت الرواية التي نشرتها دار فواصل في اللاذقية أن تطلع القارئ العربي على عوالم غير معهودة في الواقع وفي التخييل الروائي على حدّ سواء؛ مع الانتباه إلى أنّ سرد العوالم غير المعهودة يشكّل بحدّ ذاته قيمة خاصّة، حتى لو جاء ذلك في معزل عن التناول الفنّي الذي بدا متقناً في الرواية.
بعض المحمول الروائي قائم في إقدام السلطات على معاملة (رعاياها) كما يعامل مالك الأبقار أفراد قطيعه؛ فالتعداد المسرود لم يقتصر على تسجيل الأشخاص المستهدفين بالتعداد ضمن جداول تعود في نهاية المطاف إلى السلطات المختصّة، بل كان يجري وسم كل شخص جرى تعداده بوشم خاصّ يرقشه الموظّف/الطبيب على أحد الأضلاع، مع الإشارة إلى أنّ الأشخاص الذين تعرضوا لعمليات تعداد سابقة يحتفظون بجميع الآثار المتبقّية عن عمليات التعداد السابقة، فكان بعضهم يحمل أكثر من وشم على أضلاعه. ربّما كان سرد المعاناة التي يتعرّض لها موظّف التعداد، والتهرّب من ملاقاته، والمشاعر العدائية التي كان المستهدفون بالتعداد يبدونها تجاهه، هو السرد الأقلّ شأناً في الرواية التي استطاعت أن تعرض نماذج مختلفة من الشرائح الاجتماعية والمهنية التي مسحها التجوال المسرود, كالمزارعين الذين يدركون أكثر من بقية البشر ما يعنيه تدهور الأوضاع، بحسب الرواية التي تضع مكتب التعداد فوق بقية السلطات، بوصفه مالكاً لقطعان البشر على غرار ملكية قطعان الماشية؛ وعلى ذلك تؤكّد الرواية أنّ مكتب التعداد موجود قبل وجود الأمّة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار